عند الظهيرة حطت قدماي بالقرب من بيتٍ كبير في رقعة من هذا البلد الكبير. هي جزء من هذه ألأرض الممتدة من بلدٍ أُطلق عليهِ بلاد الرافدين. أرض لاتختلف عن باقي أجزاء بلدي الكبير لكنها تتميز بميزة خاصة تعادل في معزتها كل أصقاع الكرة ألأرضية . هي اللحظىة ألأولى التي صرختُ فيها علامة الحياة من رحم ألأم المقدسة. تاريخٌ يمتد أكثر من خمسين عاما. بيت صديق الطفولة لازال هنا يناطح جميع عوامل التعرية من مناهج التاريخ والجغرافية وتقاليد القبائل الممتدة الى عصور بعيدة. هنا في هذه ألأرض تتراجع مباديء الخوف من كل شيء ويحل محلها شعور بالراحة وألأطمئنان الى كل شيء. أحسستُ كأنني مسافر عاد الى أحضان أمه التي مابرحت تحسب السنوات الكثيرة لعودة فلذة كبدها. شعورٌ جميل حقا خارج حدود الوصف. حينما سافرت الى مكان ما قبل أكثر من ثلاثين عاما لم يكن في هذا البيت إلا شاب يافع كشجرة نخيلٍ قوية هو صاحب هذا البيت- صديق الطفولة- واليوم بعد كل هذه السنوات أجد أمامي أربع فتيات بعمر الزهور وشابين بعمر أشجار أزهار الصباح المتفتحة على قطرات الندى. لم أر فردا من هؤلاء الافراد الا بعد كل هذه السنوات. سدن..إسراء..جميلة..عطاء..بنات أغدق الله عليهن جمالاً رائعاً. أولاد أمجد..محمد..علي . كل شيء في هذه العائلة يرمز للمحبة للعطاء لحب الحياة. في اللحظة التي وقفت فيها عند التنور الطيني كانت إسراء تمازحني وهي تشوي الدجاج وأشياء أخرى وكأنها تعرفني منذ اليوم ألأول لولادتي. يكفي أنها عرفت أن أباها كان صديقي زمن الصبا والشباب. لم أجد كرماً كهذا الذي وجدته في هذا البيت الذي كان مزرعة بسيطة قبل أكثر من أربعين عاما. قبل أن تعرف أسماء أولادي وبناتي راحت – فتاة التنور -تتوسل إليَّ أن أبقى إسبوعا في بيتهم. فتاة مثقفة تخرجت من الجامعة قبل سنة وتحلم بوظيفة في التعليم. مشكلتها تشبة مشكلة كل الخريجين في زمن التغيير. أخبرتها أن هذه المشكلة ستحل يوماًما. قالت ” ..عمو متى سأمت من هذه الحياة. لايوجد بصيص أمل . يبدوا أن العراق إنتهى الى ألأبد. أمس كذب علي أحد المسؤولين لأحدى المدارس ألأهلية. قدمت أوراقي ونجحت في ألأختبار..وأنا من ألأوائل على مجموعتي لكنه كذب علي. لماذا يكذب ألأنسان عمو؟ ألا يخاف الله” . كانت قد جلبت لي حزناً لازال يعتصرني منذ يوم التغيير . إعتقدت أن أبناء العاصمة هم فقط من يعاني هذه المشاكل التي لاتستطيع الدولة أبداً أن تجد لها حلاً. وجدتُ أن ألأحباط قد إمتد الى القرية البعيدة…مسقط رأسي. تركت إسراء تكمل الشواء ودخلت غرفة الخطار. بقيت أراقبها وهي تسرح في خيالاتٍ لاتنتهي وتدندن أغنية ريفية كانت جدتها تغنيةا أيام الحصاد..وكنت أحفظها عن ظهر قلب..وأرددها معها في صمت مصــــــحوب بزخاتٍ من دموع لاتنتهي…آه…ماذا فعلتِ بي – يا فتاة التنور-؟
مقالات اخرى للكاتب