في رواية قصيرة أو قصة طويلة ، لا تتعدى صفحاتها الخمسة والستون، استطاع القاص والشاعر واثق الجلبي أن يرسم لنا خارطة معقدة من الإرهاصات والانفعالات الإنسانية المؤلمة ، عبر بطل سارد يروي الجزء الخفي والغير معلن من حياته الاجتماعية ، بطريقة ملؤها الانكسار والحزن ، في رواية ( كل أنواع الحلي لا تفيد الموتى) والتي صدرت مؤخراً عن بيت الكتاب السومري، وضعنا الروائي أمام جدلية اجتماعية وسايكولوجية غاية في الأهمية، عن معاناة إنسانية لرجل يعيش وحدة قسرية فرضت عليه بعد موت زوجته وسفر ابنه الوحيد، يغتسل كل يوم مرتين ويتعطر ويصلي ويقرئ شيء من القران ، هكذا كان الاستهلال الذي بدأت فيه أحداث الرواية ، لتنتقل بعدها مهمة السرد من الروائي إلى البطل، حين يقرر أن يبعث رسائل شفهية إلى زوجته الميتة عبر جهاز تسجيل صغير، وما أن يكمل رسائله الشفهية لها، حتى يغادر هذه الحياة وسط الصمت الوحدة، استخدم فيها الروائي تقنية الارتداد والاسترجاع أو كما أطلق عليها الكاتب جيرار جينيت (اللواحق)، وهي حالة من الارتداد إلى الماضي عن طريق إفساح المجال للذاكرة في استحضار جزء منه لإثراء البناء الهرمي للنص بالشواهد والأحداث والدلالات الحسية والمادية، التي تعزز الفكرة الرئيسية للنص الأدبي ، وهنا يصبح البطل سارداً ومحركاً للأحداث وللخطوط العريضة للرواية ، في مقاربة مع مفهوم (الميتا سرد) ، ليروي لنا البطل أربعة قصص مختلفة في مضامينها وتفاصيلها الاجتماعية ، لكنها تتمحور حول فكرة جوهرية ، وهي حاجة الإنسان إلى الآخر، ثنائية الخلق والتكوين الأزلية ، التي فطر عليها الإنسان.
البطل السارد الذي كانت تربطه بزوجته الميتة علاقة زوجية تقليدية رتيبة تشوبها الكثير من الإخفاقات، كونها كانت تعاني برود جنسياً، وكان يعاني اتجاهها بروداً عاطفياً ، في إحدى رسائله الشفهية لها عبر جهاز التسجيل، (برودك الجنسي كان سبباً في عدم تفقدي لجسدك وتفاصيله باستمرار ، حتى انك لم تكملي رقصتك الأولى ليلة العرس).
ينتقل بعدها البطل السارد ليروي لها قصة صديقه جابر وزوجته ندى التي ماتت مريضة قبل أوانها، ليلتحق بها ميتاً على قميص نومها البصلي، هربا من الوحدة والحزن ( جسده الواهي لم يتحمل ضغط الدم والفتق والبواسير، وغيرها من الأمراض المنتصرة عليه، فمات على الفراش تاركاً قميص النوم البصلي على ارض الغرفة بلا روح)، ويستمر البطل السارد الذي يعاني الوحدة في اجترار ذكرياته عبر رسائله الشفهية المسجلة ، ليروي قصص حب أخرى عاشتها مجموعة من الناس في مكان ما أو كما أطلق عليه (المطبخ) في إشارة إلى الحياة في هذا العالم المضطرب، شوقي ونيفين ، ووائل ونيسان، ليعترف لها في نهاية المطاف ، بأن شوقي ووائل كانا (هو) لا غيره ( عزيزتي آن لي أن أقول لك إن شوقي هو نفسه وائل ، والاثنان هما أنا..نعم أنا ).
نيفين ونيسان كانتا حالتي تعويض للبطل السارد ناتجة عن علاقة زوجية شاءت لها الظروف الاجتماعية والنفسية والاقتصادية أن تكون فاشلة ، فلأولى أي نيفين كانت تمثل له تعويضاً جسدياً لحالة برود جنسي عانتها زوجته طيلة فترة زواجهم ( في إحدى رسائله الشفهية لها ( لقد هربت في الساعة الأولى واختبأ جسدك المرتعش تحت الأريكة) ، بينما شكلت نيفين حالة إثراء جسدي أغنته لفترة لم يعلمنا الروائي مدتها، لكنها كانت كافية لتتشكل وعياً حسياً لدى البطل حتى تحول إلى وشم في ذاكرته، وأما نيسان التي لم يعرفها سوى من على سماعة الهاتف ، كانت تمثل تعويضاً سايكولوجياً له لحالة من البرود العاطفي طغت على علاقته بزوجته ( نيسان بالنسبة لوائل، أنقذت حقائبه من الاستلاب ، مساحاتها مدى يفتح ذراعيه ليتوسده) ، في إحدى رسائله الشفهية لزوجته ( كنت تحاولين التكلم في أي شيء وأنا كما تعلمين لا أحب الكلام الكثير)، وفي رسالة أخرى تبين حجم الهوة التي كانت بينهم ( عزيزتي حياتنا الضائعة قطرة ماء زانية ملعونة، لا شكل لها ولا طعم ولا لون).
كان للرمز حضوراً واضحاً بين ثنايا النص ، بطرقة تمكن القارئ من التفاعل مع الانعطافات المهمة في حياة البطل السارد، فأثري النص بمفردات لها مدلولاتها الإيحائية والنفسية والفلسفية مثل (الشتاء ، الغيمة ، الماء ، المطبخ) ، إلا أن الغيمة كان الحظ الأوفر بالحضور ببعدها الفلسفي والتعبيري، فقد كانت أكثر تلك المفردات حضوراً في النص الروائي وبتنوعات غاية في العمق والتعقيد، ففي إشارة إلى وطأة الوحدة التي كان يعانيها البطل السارد وعطشه للحظة دفئ أسرية أو علاقة حميمة ( وهو يشرب الماء البارد ، في شتاء لا ينقصه الغمام)، وفي تصوير لحالة الانكسار التي كان يعيشها في لحظاته الأخيرة ( كان صوته المتقطع كالغيم الهارب في دروب المتاهات)، صورة شعرية غاية في الجمال لرجل يحدث الموتى عبر جهاز تسجيل ، يعلم جيداً أن لا جدوى من فعل لا يثمر عن شيء ، كالغيم الهارب الذي لا يرجى منه المطر.
وفي مكان آخر تتحول الغيمة إلى قدر مشئوم حل بصديقه جابر حين فقد زوجته ندى ، ليعيش ما تبقى من حياته وحيداً في مطبخ الحياة (فالغيم قدر آخر في مطبخ الدهر) ، وفي اللحظة التي كان فيها البطل السارد يروي قصة العشيقين نيفين وشوقي لزوجته عبر جهاز التسجيل ، نجد إن الروائي يقتحم النص ليضع مفردة الغيمة في تعبير على إنها أقصى ما يمكن للإنسان أن يناله في لحظة سمو روحي أو نشوة ناتجة عن فرح أو لذة عابرة تنتهي بالندم ( في لحظة إمساك الغيم، لم يتوقع شوقي أن روحه ستمطر ندماً ) ، وحين يهجرها وتجده بعد سنين طويلة عبر بوابة الفيسبوك طالبة الصداقة منه، يعبر الروائي على لسان البطل السارد عن هذه اللحظة ( بالغيم الخجل) المحمل بالبشرى التي قد تعيد إلى نفس شوقي (هو) المنكسرة بعضاً من الفرح المفقود، وفي قصة نيسان ووائل كان البطل السارد يعبر عن ضحكات نيسان وغنجها عبر سماعة الهاتف ، بالغيمة واعتبرها ( بسمة نادرة الحدوث) هذه الغيمة التي تحجب عنه جزء من واقع مرير وتفتح له بوابة الأمل في حياته المتعبة ، في الفصل السادس وكمدخل فلسفي لماهية الإنسان ، يقول الروائي (في اغلب الأحيان لا يصدق الإنسان انه من الكائنات الحية فيحاول إثبات ذلك بطرق شتى ، فيتحول إلى حيوان بأمتياز ، الغيمة تبقى غيمة وان لم تمطر) ، إشارة واضحة إلى قدرة الإنسان على تغيير سلوكه وفق التحديات والمعطيات الاجتماعية والاقتصادية المحيطة به، التي قد تفقده إنسانيته في كثير من الأحيان ، بينما الغيمة تبقى غيمة بعطائها للحياة بالرغم من كل الظروف.
ويصف الروائي ثيمة الموت وانتقال الإنسان من هذه الحياة إلى العالم الآخر بعبارات دراماتيكية يُحدث بها البطل السارد زوجته الميتة عبر جهاز التسجيل كانت الغيمة حاضرة فيها ( الويل لمن يدخل هذا المطبخ فلن يخرج منه إلا وهو في كيس النفايات أو يحرق وتوضع في عينيه قطعة نقدية تافهة، لم تنفعه في المطبخ ، فيرحل دخاناً هارباً من الحفر ، لكنه لا يعلم أن للغيم جيوباً وللسماء مطابخ) وأعتقد أن الغيوم هنا جاءت للدلالة على القبر.
رواية ( كل أنواع الحلي لا تفيد الموتى) للقاص والشاعر واثق الجلبي ، هي إحدى روايات الإرادة الإنسانية ، التي تضعنا أمام جوهر الحقيقة الاجتماعية كما يقول بلزاك.
مقالات اخرى للكاتب