انغرس في أذهان الأكثرية من الناس في القرن الماضي أن هنري فورد هو الذي اخترع السيارة. لكنّ الذي فعله فورد كان أهم من ذلك: صنع السيارة التي يستطيع الإنسان العادي شراءها. العرب لم يخترعوا الورق. اخترعه الصينيون. لكنّ العرب جعلوه في متناول الجميع. وبسبب ذلك، غيّروا في مسار الإنسانية أكثر مما غيَّر الألماني غوتنبرغ عندما اخترع المطبعة، وصار في الإمكان أن تملأ الدنيا فكرًا وأدبًا وعلومًا.
«السحر الأبيض وعصر الورق» مؤلف جميل للألماني لوثر موللر يصدر اليوم في زمن أفول ذلك العصر الذي بدأ عمليًا في القرن السابع عند العرب، وفي القرن الثالث عشر في أوروبا. وعندما تمكن الإيطاليون من تطوير الصناعة وخفض كلفة إنتاجها، انحسرت الصناعة العربية. ويشبه ذلك ما حدث لتجارة اللؤلؤ في الخليج بعدما توصل اليابانيون إلى اللؤلؤ الصناعي.
غيَّر ظهور الورق حياة الناس. لم يعد الملوك يحمِّلون رسائلهم مبعوثًا قوي الذاكرة. بل صار من الممكن ألا يطلعوه على المراسلات السرّية. ولم يعد من الضروري أن يكون النقد معدنيًا أو ذهبيًا. واتسعت حركة المدارس والتعليم. ولم يعد حماد الراوية من يحفظ معلقات العرب، ومن يشكك البعض في ذاكرته وفي صدقه. وعندما تتحدث شهرزاد في «ألف ليلة وليلة»، تتحول حكاياتها المنقولة إلى مدوّنات مكتوبة. وفي أوروبا كما في بلاد العرب، سهّل الورق التراسل بين الرعية والحكام، فصار المواطن يسجّل كتابيًا ما يطلب. ومع الورق تغيّر عمل الدولة في كل مكان. ونمت فنون الخطوط والحروف. وقام البريد. وأخذ الملايين يتبادلون الرسائل عبر البلدان والقارات. حتى الذين كانوا يتقابلون كل يوم، أخذوا يتبادلون الرسائل لأن الورق يساعد على البوح. ومن مجموعات تلك الرسائل قام نوع من الأدب الجميل.
والزمن الذي يأسف اليوم على تضرر الصحف الورقية من صحف الضوء، أن العالم عاش قرونًا من «العبودية للصحافة اليومية» كما قال نيتشه. وهذه الصحافة هي التي صنعت الكثيرين من عمالقة الأدب، وفي الوقت نفسه، أخذ عليها كثيرون أنها «التهمت من أمامهم الوقت للتكرس للأدب النبيل».
لا يقدم موللر الورقة البيضاء، أو «السحر الأبيض» على أنها عدو للوحة الكومبيوتر، بل على أنها مقدمة لها. لقد أغنت الإنسانية مئات السنين قبل أن تبدأ في التنازل عن بعض مهامها التي لا عد لها. ويقول موللر، باسمنا جميعًا، أن للورق عطرًا لا يُنسى، وصفحة الضوء بلا رائحة.