أثارت مقالتي الأخيرة (ليس دفاعا عن الإسلام ,, ولكن) حوارات وجدت أن بعضها تأسس على فهم مرتبك لجوهر الموضوعة بعد أن تصور بعض الأخوة أن هاجسها الأساسي كان قد إنشغل بمهمة الدفاع عن الدين بمنطق يتعارض مع قناعاتهم, في حين أن المقالة كانت قد توجهت للدفاع عن هدف بناء الدولة العلمانية, وهو هدف يمتزج السياسي فيه مع الفكري, ولا يمكن لأحدهما أن يتحرك بمعزل عن الآخر.
لكن الدعوة إلى فكرة هو غير العمل من أجل تحقيقها, ولهذا حاولت أن أميز بين مهمة وطبيعة الكاتب المفكر المطلق السراح والكاتب السياسي المقيد بإنجاز هدف محدد, وإذ يُشاد بحرية الأول في التعبير عن أفكاره بدون قيود فإن الثاني ملزم, ليس بتقييد أفكاره, وإنما بتحديد سلم الأوليات وتحديد الطريقة الأضمن لتحقيقها بحيث لا يتقاطع أحدهما مع الآخر في لحظة فاعلة بعينها.
إن الدعوة إلى بناء الدولة العلمانية هي سياسية وذات قيمة أدائية إنجازية تجد نفسها وهي في مواجهة الخصوم الأشداء, من مؤسسات وأحزاب دينية وجهل إجتماعي مطبق وعميق الجذور, أن عليها أن لا تضع في أيادي أولئك الخصوم أوراقا للقوة في الموقعة التي تتوجه أساسا لكسب العامة قبل أن تتوجه لكسب المثقفين.
ولأن البعض يشعر أن القضيتين لا يمكن تجزئتهما أوفصلها إحداهما عن الأخرى فسيكون من الطبيعي أن يستنتج أن الوصول إلى إحداهما يتطلب حتمية المرور من خلال الأخرى, وسيكون منطقيا أن يرى هذا البعض وجوب ان يكون هناك موقفا فقهيا وفكريا وفلسفيا سلبيا من قضية الدين ملازما لأية موضوعة تنتصر للعلمانية وتعمل من أجل تأسيس دولتها ومجتمعها. أي أنه يشترط عليك, لكي تكون علمانيا, ان تكون ملحدا أولا, وأن تعمل بشكل متزامن لنشر ثقافة الإلحاد جنبا إلى جنب مع الدعوة إلى بناء هذه الدولة, وبهذا فقد يعتبر البعض ان فكرة العلمانية, حتى على المستوى السياسي, هي نقيض لفكرة التدين, وإنهما لا يمكن أن يجتمعا تحت سقف واحد إلا وكان النفاق ثالثهما.
وأجزم أن من الأمور التي يجب ان نعطيها إهتماما مركزيا هي تلك التي تتحرك عبر السؤال التالي :
هل يشترط بناء الدولة العلمانية وجوب أن يكون الإنسان العلماني ملحدا, أم أن بالإمكان وجود دولة علمانية بمواطن متدين وآخر ملحد, وبثالث لا يهمه أمر الإثنين معا.
وأجد أن الإجابة على هذا السؤال لا يمكن أن تتم بدقة ما لم يجري في البداية وضع تعريف دقيق لمسألة إسمها (الدولة العلمانية), فلقد وجدت أن هناك خلطا بين العلمانية كثقافة فردية, وهي تلك التي تتعلق بالموقف الشخصي من قضية الخلق والخالق, وبين العلمانية كحالة (سياسية) تتعلق بقضية فصل الدين عن السياسة ولإنشاء دولة علمانية تترك لمواطنيها حرية الإلحاد من عدمه, أو حرية أن لا يكون لهم موقفا من قضايا الدين بالأساس.
ثم إنني أجد أن من الخطأ محاولة الإجابة على اي سؤال يتعلق بمسالة حاجتنا إلى العلمانية من خلال إجابات محددة سلفا كانت قد تأسست على ضوء سياقات الحاجة إلى العلمانية في الغرب وعلى مدى النجاحات التي حققتها الدولة العلمانية هناك.
ولا اريد لموقفي هذا أن يفهم على أنه محاولة لطغينة الخاص الموضوعي على العام الإنساني, ففي حين لا يمكن إغفال قيمة المشترك الثقافي الإنساني فإن الوصول إلى ذلك المشترك لا يشترط مطلقا القفز على الموضوعي, بل لعلي أرى أن درجة نجاحه, وحتى نجاحه بالاساس, إنما يعتمد على التفعيل الإيجابي للعاملين في ذات اللحظة.
القد أكدت في مقالتي السابقة على أن وجود دولة علمانية تقوم على مبدأ الفصل بين الدين والدولة سوف يضع بيد العلمانين فرصا حقيقية لتثوير أو تنوير المجتمع لتغييره, ليس من خلال قوة الدفع الثقافي والفكري لوحده وإنما من خلال قوة التحولات والإنجازات النهضوية على الصعيد الإقتصادي والعلمي.
لكن هل يمكن الإعتماد على النجاحات الهائلة التي حققتها العلمانية في الغرب لكي نضمن حاجتنا إلى الدولة العلمانية مثلما نضمن أيضا تلقائية وسياقية نجاحها في أوطاننا, أم أن هذه الحاجة وهذا النجاح يتطلب وجودا موضوعيا لظروف ذاتية خاصة بمجتمعاتنا ومنها تلك التي تتعلق بعلاقة هذه المجتمعات مع الدين الإسلامي أولا ومع ظرف الزمان والمكان الذي قد يساهم بتعجيل نجاح تجربة ما في مكان معين ويبطأ أو يؤخر كثيرا من نجاحها في موقع آخر.
إن إهمال هذه الحقائق لا يلغي صفة العلمانية من الفرد كمفر حر ومهتم بالجانب الثقافي البحت ولا يتقاطع مع حقه في الدعوة إلى أفكاره لكنه بطبيعة الحال سيلغي أو ينقص من قدراته كمفكر سياسي هدفه الإنتصار للدولة العلمانية بعد معرفة الطرق الأفضل لقيامها.
وقد يجعله ذلك علمانيا ولكن ضد العلمانية.
مقالات اخرى للكاتب