جلستْ في زاوية من زوايا الحديقةِ الصغيرة في أربيل تنظر الى كافة الجهات بشرودٍ ذهني كأنها تشاهد حركة الحياة لأول مرة في حياتها. شعور غريب يجتاح كل جزء من أجزاء جسدها . جسدٌ لم يبقَ منهُ إلا بقايا روح ليس لها قيمة في هذه الحياة. تشعر أن كل شيء في جسدها قد تعطل الى ألأبد. كانت تغطي كل جسدها بقماشٍ أسود ونقاب يغلف وجهها بشكل دقيق . لم يظهر من جسدها إلا عينان بائستان كأنهما كرتان فضيتان تلمعان في ليلٍ حالك السواد. لاتريد أن يقترب منها أي إنسان ولاتريد أن تتحدث الى أي إنسان هي ألأخرى. لحظات تمر عليها كأنها خرجت لتوها من قبرٍ مرعب. هذه أول مرة تخرج فيها الى الحياة العامة بعد غياب ثلاث سنوات في غرفتها الصغيرة في بيتٍ يسكنهُ أشخاص لايقلون عنها بؤساً وشقاء. والدة مبتورة الساق وشقيق أطرش لايسمع أي شيءٍ مما يدور حوله في هذا العالم الدموي. هي لاتعرف كيف بقيت على قيد الحياة حتى هذه اللحظة- ولو أنها في قرارة ذاتها كانت تتمنى لو أنها ماتت مع والدها وعمها في ذلك المساء الدموي المرعب- . قادتني الصدفة الى هذه الفتاة بلا تخطيط مسبق. كنتُ جالساً في الطرف القريب منها دون أن أنظر إليها لحظةٍ واحدة إلا عند سقوط هاتفها النقال من يدها على ألأرض حيثُ جلب إنتباهي بشكل غريب. لم تهتم لسقوطه . تركتهُ على ألأرض وظلت تحدق بشكل غريب الى جهةٍ معينة من تلك الحديقة. في البداية جاءت الى ذهني صور كثيرة وأنا أنظر الى الهاتف المسجى على ألأرض دون أن يهتم أحد لوجودهِ هناك. تقدمتُ صوبها بطريقة الباحث عن فعل الخير. إلتقطتُ الهاتف من على ألأرض وسألتها عن سبب عدم إلتقاطه في اللحظةِ التي التي سقط على ألأرض. نظرت إليًّ كانها تشاهد لأول مرة في حياتها رجلاً على هذه ألأرض. الغريب أنها كانت متمالكة أعصابها بشكل كبير. مدت يدها لتاخذه من يدي دون أن تتفوه بكلمةٍ واحدة. كانت تضع قفازاً أسوداً من القماش في يدها. كل شيء فيها أسود من قمةِ رأسها حتى أخمص قدميها. كنتُ أشاهد بريقاً لامعاً ينطلق من عينيها وهي تحدق في وجهي. إستدرتُ للعودة الى مكاني الذي كنت أجلس فيه. على حين غرة قالت ” تستطيع أن تجلس هنا إذا أردتَ. ليس معي أحد ولن يكون في المستقبل مادمتُ على قيد الحياة” . كان صوتها ناعماً جداً كأنه لحنٌ موسيقيِّ ينطلق من أعماق الذات. بلا تردد جلستُ على بعد مترين أو أكثر لاأعرف بالضبط. بلا تردد قالت ” ..إنظر أشتريت أدوات المكياج هذه, أليست جميلة؟ هذه أول مرة أشتري علبة مكياج منذ ثلاث سنوات. أشعر كأنني طفلة صغيرة حصلت على لعبة ثمينة” . راحت تفتحها وتريني كم أنها غالية الثمن ومن الدرجةِ ألأولى . لم أشاهد في حياتي فتاة أو إمرأة تتصرف هكذا ومع إنسان غريب تلتقي به لأول مرة . حكمتُ عليها من اللحظةِ ألأولى أنها مجنونة ودرجة جنونها كبيرة.
بلا توقع قالت ” ..لاتخف أنا لستُ مجنونة. سأثبت لك هذا إذا كانت لديك رغبة للأستماع.” تركتها تتحدث كما تشاء وعن أي شيء. لم اقاطعها مطلقا. قبل أن تبدأ في الحديث عن ألأشياء الخاصة إندفعت قائلة ” ..قبل قليل شاهدته هناك لكنه لم يعرفني ..ولم أستطع أن أناديه. كنتُ خائفة أن يرتعب حينما يراني لذلك إكتفيتُ بالنظر اليه من بعيد. كان خطيبي لكنه تركني بعد الحادثة. لماذا تركني؟ أعرف أنني لم أعد صالحة للزواج لكنه تركني في هذا الظرف العصيب الذي أمر فيه. أنتم الرجال تتشابهون في كل شيء. تبحثون عن الجسد أقصد جمال الجسد. في اللحظة التي يتعطل فيها جسد المرأة تولون ألأدبار.
الحق معكم لأنكم تريدون أداة للمتعة وليس للشفقة. ” سكتت قليلاً. حاولتُ أن اقول شيئاً معيناً لكنها طلبت مني السكوت. قالت ” ..هذه أول مرة أخرج فيها من غرفتي في البيت. بدأتُ أشعر بألأختناق هناك. ثلاث سنوات لم أصل الى باب الدار الخارجي. سقطت قذيفة على بيتنا في ديالى ومات ابي وعمي وأحترق البيت وقطعت ساق امي وأصيب شقيقي بالطرش. لم اشعر بوجودي في هذه الحياة الا بعد ثلاثة أشهر. جسدي كله محترق .. رقبتي.. ألكتفان.. الصدر.. الظهر.. الفخذان.. الساقان .. اليدان.. كل شيء.. لم أعد أشعر حتى بالرغبة الجنسية..جسدي معطل مئة في المئة. اليوم قررتُ أن أشاهد الحياة. جئت الى هذه الحديقة..الله لم أشاهد أطفالاً وأشجاراً وبشراً منذ ثلاث سنوات. شاهدتُ خطيبي يجلس هناك مع شخص وجاء رجل آخر وصاح علية ” أبو محمد” ..لماذا يدعوه – أبو محمد؟-هل تعتقد أنه تزوج وتركني بهذه السهولة؟ هو ناكر للجميل. هل تصدق أنني قبل الحادث تحديتُ عائلتي وذهبتُ معه الى رجل دين وعقدنا قراننا. هو جبان . ذهبتُ الى جراح التجميل وأخبرني بأنني لن أعود كما كنتُ سابقا. أخاف من العملية – ليست عملية واحدة وإنما عدة عمليات. أخاف أن يتغير وجهي لأنني أشبه ملامح والدي. أريد أن أظل على نفس ملامح والدي. سأختنق من هذا النقاب ولكنني لاأستطيع أن أتخلى عنه ..
من يشاهدني يرتعب. لو أنك تراني ألآن بدون نقاب لوليتَ هاربا. سأعطيك حسابي في الفيس بوك ربما تريد أن نتحدث يوما ما. ألان ساذهب . شعرت بألأرتياح بعض الشيء لأنني شاهدت الشمس وألأشجار وألأطفال وحتى خطيبي الذي تركني بعد الحادث. سألعب بعلبة المكياج حينما أعود الى غرفتي كطفلة صغيرة تشتاق الى دميتها العزيزة…مع السلامة” . نهضت وقبل أن تختفي قالت إطلق علي إسم – فاطمة- لأنني أحب هذا ألأسم كثيراً. إختفت وبقيتُ أنظر الى هيكلها الملفوف بالسواد. كان جسدي يرتعش كجسد عصفورٍ صغير سقط من عشهِ في بركةِ ماء قبل أن يتعلم الطيران.
مقالات اخرى للكاتب