ما أن حلَّ ظلام ليلة انتخابات مجالس المحافظات في البصرة ولعلها في كثير من محافظات الوسط والجنوب حتى هبَّت جموع الحواسم والعتالين وصغار اللصوص تجمع يافطات دعاية المرشحين،في حملة مباغتة سريعة مستفيدين من براويز الحديد والخشب وصفائح المعدن،غير مبالين بمن فاز وسيفوز و خسر وسيخسر،هكذا وفي غضون ساعات قليلة نظف هؤلاء شوارع وتقاطعات المدينة من كل ما علق بأعمدتها وواجهات مبانيها من صور وشعارات ووعود،حتى أن عمال البلدية لم يلاقوا صعوبة في جمعها،بل قل لم يكسب عمّالُها من الغنيمة شيئاً.
الآن وقد خلت الشوارع من كثير الصور والشعارات اللهم إلا من اقتصرت دعايته على ملصقات من الصور الورقية التي رغبت عنها جموع (المتبضعين) ليلاً،لكن النتائج الأخيرة التي أفرزتها المفوضية كشفت لنا واحدا من أسرار الانتخابات،وهو أن بعض المرشحين لم يكسب من دعايته تلك سوى بضعة أصوات،ونشرت أرقاما أقل ما يقال عنها أنها غير محترمة،فمن دخل الانتخابات وخرج منها بـ 6 أو 9 أو 17 أو 20 أو 100،أو 200 فقد دلنا على قضية في غاية الأهمية،قضية تقول كم كانت العملية تافهة في نظر البعض منهم ،إذ ما معنى ترشيحه إذا كان يعلم أن كل ما سيحصده من أصوات لا يتجاوز عدد أفراد أسرته،أصدقائه،البعض من أبناء عشيرته ؟ ترى ماذا يعني ذلك؟
بحسب المفوضية فأن عدد المرشحين في العراق بلغ 8275 مرشح موزعين على كيانات بلغت 139 كيانا،وفي البصرة وحدها تقدم 620 شخصا للترشيح على أمل الفوز بعضوية مجلس المحافظة البالغ 35 عضوا فقط،الآن وبعد أن فاز الـ 35 في المجلس ترى كيف يفكر الآن الـ 585 الذين خسروا،وماذا كانت آمالهم،أو لنقل أي صفاقة كانت في نفس الذي لم يحصل سوى على 9 أصوات؟بل أين المشروع السياسي الذي أعلنه قبل دخوله الانتخابات؟
في قراءة سريعة لما يحدث في العملية السياسية العراقية نجد أن المشروع برمته بحاجة إلى إعادة نظر فوقية،ومن أعلى هرم في الدولة،نزولا إلى أدنى فهم للمواطن البسيط الذي إن لم تستقم أدوات تفكيره فسيكون المخدوع الأكبر في المشروع الفاشل هذا.
إذ من غير المعقول أبداً أن لا يفكر المرشح العراقي،الذي يتقدم على أمل تسلم سلطة في بلده بحجم نفوذه الحقيقي،ومن غير المعقول أيضا أن تقبل السلطات المعنية بجهله هذا،ومن الصفاقة كذلك أن تفهم العملية الديمقراطية بهذه الآلية،هناك خلل لا يمكن التغاضي عنه،لأن قواعد اللعبة الديمقراطية لا تقول بذلك،وهي بالتالي تفسد العملية كلها،وتذهب بقدرة الناخب البسيط على الإتيان بحكومة لا تملك قوة التغيير والوقوف خارج الأزمات،ولديها الأهلية على تقديم ما ينفع مستقبله،هذا إذا أحسنا الظن بنوايا المتقدمين على الترشيح،اما إذا لم نحسن الظن بهم فنقول،-وهذا ما نجزم به -: لقد أغرى منصب عضو في مجلس المحافظة نفرا من الناس،وصارت مبالغ الملايين من الدنانير(الرواتب)هدفا أولاً لا يتقدمه هدف آخر هو الوازع الأول والأخير في إقدام العدد الهائل هذا، بل إن المنافع المالية والاجتماعية والراتب التقاعدي فضلا عن المنفعة غير المشروعة التي سيحصل عليها الهؤلاء من خلال وجودهم في المجلس،وسواها أسباب أكيدة دفعت بمشاريعه (أوهامهم)وهذا ما لمسناه من خلال المبالغ التي دفعها بعض المرشحين للناخبين قبل الانتخابات،وتأكد لنا من خلال أرقام الهواتف التي دوّنها بعضهم على لوحة الاعلانات الخاصة به،ومن خلال الدعوات والولائم التي أقاموها،واليمين الذي طالبوا به ناخبيهم مقابل انتخابهم وهذا ما يبين لنا بان المشاريع والبرامج التي أعلن عنها هؤلاء لم تكن سوى أوهام أرادوا تمريرها علينا نحن الذين ما زلنا نعتقد بان الديمقراطية أملنا الكبير في الحياة .
قد لا تصح عبارة(إذا لم تستح افعل ما شئت)هنا، لكن الواقع العراقي يقول ماذا كانت دوافع المرشح الذي لم يحصل على (10 ) أصوات في انتخابات يتوجب عليه فيها الحصول على( 15) ألف صوت في أقل تقدير،ضمن عملية يتقرر على نتائجها مستقبل البلاد بأكملها؟وإذا كانت الديمقراطية قد فهمت على الأساس هذا فما مستقبلها يا ترى؟ وهنا قد لا تعني خسارة هؤلاء شيئا لهم لكنها تعني خسارة كبيرة للناخب العراقي نفسه،الذي ظل يعول على نتائج الانتخابات في رسم صورة البلاد القادمة.أمّا الحديد والخشب والصفائح المعدنية التي جمعها المحوّسمون واللصوص الصغار فهي القيمة الفعلية والرد الحقيقي على نوايا ومشاريع هؤلاء الصغار.
مقالات اخرى للكاتب