ليس ثمة ما هو أسوأ من محاكمة ومعاقبة إنسان على رأي أو فكرة يقول بها.
الحياة وتقدّم البشرية كانا دائماً مجالاً لجدل وتصارع الأفكار.. ودائماً، كانت الكوارث تبدأ حين تستبدّ فكرة فتنتقل من حيّزها العقلي إلى الذراع، حين تتحول من قوة عقل إلى إرادة ذراع، ومن قوة الحجّة إلى قوة السلطة، فتمنح نفسها حق محاكمة الآخرين ومعاقبتهم بمقتضى أفكارهم وآرائهم.
شراسة المستبد لا تنظر إلى المستقبل. إنها إرادة خائفة لا تفكر إلا بلحظتها الراهنة، بالخوف على هذه اللحظة والعمل على احتكارها، وإلا فإن المحاكمات كثيراً ما تفضي إلى شهرة الشخصيات الذين تجري محاكمتهم ومن ثمَّ شهرة وبقاء الأعمال موضوع الخلاف ماثلةً في الأذهان لزمن ربما يطول، حيث تشحب فكرة المستبد وتضمحل إرادته، مثل أية حياة ساكنة ينتهي بها الزمن وبركودها إلى الفساد.
يتوارى المستبد في العتمة، بينما الضوء كله يُسلَّط على المقموع، وهذا تبادل أثمان، يقبض بموجبه القامع على اللحظة الراهنة ليظفر المقموع بالمستقبل.. كانت محاكمة غاليلو مثالاً حيوياً على هذا التبادل في الأثمان الذي اطمأنت بموجبه الكنيسة على لحظتها، بينما كان المستقبل للفكرة التي قتل بموجبها غاليلو.
المحاكمات على مر التاريخ تباينت في مبرراتها ونتائجها، وفي ميادين الفكر والثقافة التي لم يبق منها ميدان لم تطله محاكمات ومعاقبات.. في بلاد (العالم الحر)، في الولايات المتحدة، وفي عقد ليس بالبعيد تماماً، كانت محاكمة قصيدة (عواء) للشاعر الأمريكي آلن غينسبرغ سبباً مباشراً ليس في تسليط الضوء المبهر عليها حسب، وإنما أيضاً في تحوّل شاعرها من مراهق متردد إلى رجل واثق. يقول زملاء عنه إن غينسبرغ، بعد (عواء) ومحاكمتها، لم يعد غينسبرغ نفسه، لقد بات أحد صانعي الأدب الأمريكي الكبار.
وفي ما حوكمت هذه القصيدة نفسها عام 1957 في أمريكا بعد عامين على كتابة شاعرها لها، فإن شاعراً آخر، في الطرف الآخر من العالم، هو الروسي (السوفيتي حينها) جوزيف برودسكي حوكم في بلده ليس بفعل قصيدة بعينها، وإن استخدمت بعض نصوصه ضدّه كشواهد جرمية، وإنما بفعل إصراره على أن مهنته هي (شاعر)، بينما كانت القاضية تريد منه مهنة عملية، في مؤسسة واضحة، لا يكون معها مجرد عاطل غير قادر على (إعالة عائلة وخدمة وطن).. وكان لهذه المحاكمة أن أسهمت في انتشار اسم ضحيتها في مختلف أرجاء الأرض ورسخت قيمته الثقافية.
وقبل هاتين المحاكمتين بأكثر من الفي عام، كانت أثينا، وبتهمة تشويه أقكار الشبّان، قد حاكمت سقراط، فيلسوفها الذي كان يفضّل الحوار الشفوي على الكتابة.. أعدم سقراط بكأس سم، فملأت سيرته ومحاكمته وأفكاره آلاف الكتب والدراسات بوصفه أول ضحايا الإضطهاد الفكري ومن أكثرهم شجاعةً وإخلاصاً للتفكير الحر.
وبفعل الفهم الضيق لأفكاره ومعتقده، صلب الحلاج على نخلة بغدادية قبل قرون، لكن المدينة ما زالت تحتفظ بقبر رمزي للرجل الذي أحرقت جثته بعد صلبها وذر رمادها في الرياح.
لم يكن الحلاج يمتلك سخرية سقراط، فواجه موته جاداً، بينما سخر فيلسوف أثينا ممّن حاكموه، فوصفهم بالجهلة ونعت نفسه بأنه أعلم مَن في الأرض، مستنداً في هذا الإطلاق على أنه أعلم الناس بأنه لا يعلم.
برودسكي هو الآخر امتزج لديه الجد بالسخرية حين سألته القاضية: " من اعترف بأنكم شاعر؟" فرد عليها: " لا أحد. ومن قرر أنني أنتمي إلى الجنس البشري؟".
القاضي الأمريكي عام 1957حاكم ناشر قصيدة غينسبرغ (عواء) بتهمة الفجور وتضمينها كلاماً نابياً يشيع الرذيلة، لكنه كان أكثر حكمة وهو يختم المحاكمة، وقد برّأ القصيدة مما ألصق بها من تُهَم أخلاقية، قائلاً : «المادة الأدبية التي تملك أيّة قيمة اجتماعية، ولو في حدّها الأدنى، هي مادة غير فاسقة»..
وفي بغداد أيضاً، وقبل المحاكمة الأمريكية لـ (عواء) بسبع سنوات، كان الشاعر حسين مردان يقف أمام قاضٍ بغدادي مدافعاً عن ديوانه (قصائد عارية) الذي اتُّهم، هو الآخر، بكونه مخلّاً بالآداب ويعمل على إشاعة هذا الإخلال بين الناس لينجح محاميه في تأكيد الهدف السامي للآداب والفنون بخلاف ما تنشغل به التهمة من العوارض السطحية، مستفيداً بذلك ومشيراً إلى المحاكمة الشهيرة التي كانت قد عرفتها فرنسا ضد فلوبير وروايته الأشهر (مدام بوفاري)، فتجري تبرئة حسين مردان الذي ابتني مجده الأدبي على هذا الكتاب الذي لا يستذكَر حين يجري الحديث عن قيم الفن الشعري، بينما يمثل بقوة إذا ما مال الكلام باتجاه المنع والحجب والمحاكمات.
سوى هذا فإن التاريخ تعمّد كثيراً بدماء مفكرين ورجال دين وأدباء ومصلحين قتلوا أو أعدموا من دون محاكمات..
هذه حالات فكرية وأدبية وسياسية متباينة في جوهرها ومآلاتها، لكني استذكرتها، كما استذكرت سواها الكثير مما لا مجال لسرده هنا، حين كنت أكتب هذا العمود في اجواء ذكرى وفاة الإمام الكاظم، حبيس بغداد التي تستعيد ذكراه كل عام، من دون التفكير بتأسيس مركز مدني تنويري لحرية التفكير والاعتقاد والتعبير، باسم الإمام، كإجراء عملي وثقافي ينتصر له ولكل ضحايا الإضطهاد ضد إرادة الحبس والقمع والقتل ومنع التنوع الفكري.
مقالات اخرى للكاتب