كنا عشرة افواه وبطون ، تسعة منها استهلاكية . نضحك بانشراح ونقهقه بصدق لنكتة تافهة جدا بمقاييس اليوم ، ونبكي لوفاة صديق مصلّح "عربانة" جارنا العتال ، فاذا جن الليل دسسنا في البطن ما تيسر في المطبخ من دون أدنى قلق على ما سيأتي او لا يأتي في الغد . لا تسلني عن السيولة النقدية المتوفرة ، فهي غير متوفرة لانها تتبخر فورا في جيب "الطلابة" الصبورين من بقال وحلاق و الوراق "ابو صادق – رحمهما الله" . البرّاد لو أثرى ففي جوفه باقة نعناع عضوي تجاور احيانا قطعة جبن قد تمهلنا يوما اخر قبل ان تتعفن . الحديث عن قناني المياه المعدنية كان اشبه بالحديث عن تويتر آنذاك . نمرض ونصاب بجروح وكسور ولدينا قناعة فطرية كاملة برعاية الله ، ان هي الا مسالة وقت ، ونعود لركل كرة القدم المتهرئة من جديد . التلفاز الملوّث "غير الملوّن" الذي دخل البيت متأخرا وبتعثر ، كان كثير الغنج و يفرض علينا تشغيله قبل بدء اي برنامج او مباراة بنصف ساعة هي للاحماء وتوجيه ما تيسر من الركلات ليستيقظ من سباته العميق . الوصول الى المدرسة يتطلب مشيا على الاقدام نصف ساعة على الاقل حتى وان كانت السماء تبصق حُمما او زمهريرا . والحديث عن سيارة او تكسي كان ترفا وبطرا ليس في محله . بطلا الساحة المتوفران الخبز والتمر بانواعه قبل ان يصنف الاخير ضمن قائمة الاحجار الكريمة ، بعد ان احتقرنا قيمته الى حد اننا كنا نتراشق به في اعقاب فشل الحوار، وهي مرحلة تسبق القنادر والجلاليق ومن ثم البوكسات التي بها نكرم او نهان ، وغالبا ما كنا نهان . منزلنا كان يسع العشرة المطشرين برحابة صدر وهو بمفهوم اليوم شقة صغيرة بالكاد تعد مفروشة . احيانا افكر في معاقبة اولادي – حتى من دون ذنب – من خلال فرض تلك الحياة عليهم ولو بالخيال . الهاتف التقليدي السلكي لم يدخل البيت الى ان غادرته . رغم كل ذاك كانت الحياة مليئة المعنى ولها مفهوم . اليوم خمسة هواتف في البيت ونحن اربعة فقط ... البراد والمجمدة تئنان من ثقل الأوزار "النوّاب" . المخزن فيه من المواد الغذائية الاساسية ما يسد افواه سابع جار . فالتسوق يومي او شبه يومي . أحذية الاولاد تزيد "قيمة وعددا" على مجموع ما اشتريته انا واخوتي من الاحذية والنعلان وقباقيب الحمام طوال حياتنا . ملابسهم نفس الشيء . البوفية فيها من الاكسسوارات والشراء الكاذب ما يخجلك امام علي بن ابي طالب "ع". كل واحد منا اختص بغرفة تحمي خصوصيته ومختصاته . اربعة مجمعات تجارية ملطوشة باناقة بالقرب منا . سيارتان تفصلهما عن باب البيت خمسة امتار او اقل . خدمة الانترنت مثل الطلقة ، فاذا تعثرت قليلا خرج عليك الاولاد بتظاهرة احتجاجية – احيانا غير سلمية - تدعو الى تطبيق حزمة اصلاحات وعزل الفاسدين " طبعا المعني هو أنا ولا احد غيري" . البريد التقليدي ياتيك للباب يوميا مشفوعا بابتسامة بريئة تكون قادمة من الجنس اللطيف احيانا . اكثر من مئتي قناة فضائية تصل اليك عبر شاشة تلفاز ذكي يضم حاسوبا متطورا تتحكم به من مقعدك المترهل !!! الفيسبوك ، يجمعك باصدقاء كانوا حقيقيين لم تكن تحلم بالارتباط بهم مجددا ، وكانوا يظنون انك من بقايا عظام وخوَذ "صور من المعركة" التي بدأت في الثمانين ولم تنته حتى اليوم ، ولا يبدو انها ستنتهي . لستُ من المتمسكين بمسقط الراس أوالوطن ، اذ اعتبر كل بقعة من ارض الله احط فيها هي سكني ، لكنني احسد الوطنيين المتمسكين بالارض لان لهم هدفا نهائيا يشدهم اكثر الى الحياة ، فيشعرون بسعادة غامرة افتقد الاحساس بها ، فاتمنى ان احسب عليهم ذات يوم . امس بكل مراراته وشحه وحرمانه كان نابضا بالحياة . اليوم بكل سخائه وآيفوناته الانيقة لامعنى و لا طعم له لكن فيه رائحة ، ليتها لم تكن . في اقصى حالات العافية بتنا نخاف من المرض . في اكتظاظ البراد بالمواد نشعر بقلق من جوع الغد . مع توفر سيارتين وعشرات الباصات والقطارات يلح علينا خوف عدم الوصول . ترى أهو تراجع الايمان ؟ أم ضريبة التقادم في العمر ؟ لست أدري ولا المنجم يدري . لكنني اخشى ان ينتقل هذا الاحساس بالاحباط الى اولادنا عندما يكبرون فيحنون ، وهم ينفثون دخان سجائرهم ، لايام الحرمان التي عاشوا فيها مرارة اختراعات ستيف جوبز وبيل غيتس وزوكربرغ .
مقالات اخرى للكاتب