جريمة شابل هيل التي حدثت بالأمس والتي نفذها أمريكي يدعى غريغ ستيفين هيكس، أدت إلى مقتل ثلاثة مسلمين عرب من عائلة واحدة. سبب الجريمة كما تؤكد عليه زوجة القاتل هو خلاف على صف السيارات في الموقف المخصص للشقق السكنية وليس كما يزعم أهل الضحايا كونها تأسست على كراهية عنصرية للعرب والمسلمين .. السبب الظاهر حتى لو كان هو الذي حرك نابض المسدس, فهو لا يصلح مطلقا لتفسير جريمة على هذا المستوى إلا إذا صدقنا بالروايات التي تتحدث عن قتال عشيرتين في بلادنا بسبب خلاف على بقرة تابعة لإحداهما وكانت أكلت من حشائش الأخرى.
الأسباب الفنية المباشرة للجرائم تصلح لتفسير كيف وقعت الجريمة أما تفسيرها فهو يحتاج إلى شروحات تتعدى ال (كيف) إلى ألـ (لماذا), والقتال بين عشيرتين لن تلم باسبابه ذهاب تلك البقرة للأكل من حشائش العشيرة الأخرى. وكما أنه ليس مطلوبا من القاضي أن يؤسس حكمه على طبيعة الدوافع الإجتماعية والثقافية التاريخية وحتى الإقتصادية الوضعية كقاعدة لتحديد طبيعة قرار الحكم التي هي من شؤون المفكرين, وعموما فإن القضاء غالبا ما يهتم بالـ (كيف) في حين أن المفكر يهتم بالـ (لماذا) ثم يتعامل مع القضية كقضية مجتمع أكثر من كونها قضية مجرم أو ضحية.
وقلت السبب الظاهر لا يصلح دائما لتفسير ملائم, لكن ستكون هناك اضرار مضافة فيما لو لم نحسن تفسير الحالة بحدودها وذهبنا إلى تفسيرها بأكثر مما تتحمل, ولذلك فإن محاولة إيجاد دوافع للجريمة تتخطى كونها (فنية) وتتعلق بخلاف حول موقف للسيارات إلى كونها (منهجية) وذات علاقة بجرائم الكراهية الموجهة ضد الإسلام, إنما أراها في جانب من جوانبها نتاجا لثقافة تسطيحية تعويمية وإسقاطية عجولة قد تأخذ القضية على طريق لا يفيدها.
وإنما أعني بالتسطيحية والتعويمية هنا تفسير الحالة بأمر واحد ولأمر واحد, وهذه لا شك إشكالية يعاني منها العقل العربي الذي تعود على تلقي الثقافة ذات الوجه الواحد, كما ان المعني بالإسقاطية العجولة هو إخضاع الحالة فورا للفحص والتفسير على ضوء ثقافة جاهزة ودون النظر إلى إمكانية وجود تفسيرات أخرى قد لا تتلائم مع الخزين الثقافي المغلق على فكرة واحدة.
هنا نحن ضد أن تكون الجريمة مفسرة على طريقة زوجة القاتل التي تحاول ان تحصر الأسباب بكونها أرتكبت لخلاف على موقف السيارات لكننا لسنا بالضرورة مع ذلك الذي يفسر الجريمة كونها في البداية والنهاية تعبير عن كراهية للإسلام والمسلمين, ثم نخرج بها من كونها أزمة شخص لنجعلها أزمة مجتمع.
كل طلاب جامعة شابل خرجوا يؤبنون الضحايا في وقفة إحتجاج ضد كل ما يكون وراءها من أفكار عنصرية بما يؤكد أن الغلبة الحقيقية هي للفكر والمواقف الإٌنسانية وثمة مواقف إعلامية كانت قد حصلت مع العديد من الجرائم الإرهابية التي حصلت ومنها على سبيل المثل ما قام به الطبيب النفسي المسلم (نضال) حينما قام بجريمة قتل ثلاثة عشر من الجنود في القاعدة العسكرية التي يخدم فيها بطريقة إرهابية وغادرة ولا تشرف أحدا. ويوم تصدى الإعلام لتلك الجريمة فهو لم يسقط عليها الموقف المناوئ للإسلام عموما وإنما حاول أن يحصرها بإطار شخصي ونفسي أخلاقي, ولا أعتقد أن ذلك الموقف كان إنطلق من غيرة سياسية أو إعلامية على الإسلام نفسه بل من غيرة وحرص على مجتمع ليس من صالحه الإنفجار العرقي أو الديني.
قبل ثلاثة سنوات كانت هناك ضجة إعلامية سياسية كبيرة بعضها مناوئ وبعضها مؤيد لمسالة بناء الجامع الذي كان قد بدأ التفكير ببنائه في المكان الذي حدثت فيه عملية 11 سبتمبر الإرهابية التي اودت بحياة أكثرمن ثلاثة آلاف أمريكي بريئ على ايدي ثلة من مجرمي القاعدة, وعرفت أن العناصر اليهودية في مجلس محافظة نيويورك كانت صوتت لصالح بناء الجامع, بما يؤكد على حاجتنا الماسة لدراسة طبيعة المجتمع الذي نتعامل معه زرسم إقتراباتنا وفق هذه الكبيعة وليس على ثقافة موروثة وضيقة بحدود المخزون, فاليهود الأمريكين الذين يؤيدون إسرائيل ليس من صالحهم تشريع قوانين وتفعيل ثقافة تضر بالأقليات, وتصويتهم الإيجابي جاء بهذا السياق ولم يأتي كتعبير عن ود للمسلمين. لو أن حدثا كهذا حصل في بلادنا لما وجدت بشرا أمريكيا واحدا يمشي في اي مدينة عربية, لكن لأتوقف أمام مشهدين أولهما وجود أكثر من خمسين ألف مبتعث سعودي تزدحم بهم, ليس مقاعد الجامعات فقط, وإنما أيضا النوادي الترفيهية والحدائق والبارات والمطاعم, وبالإمكان رؤية عشرات المنقبات, وليس المحجبات فحسب, يتجولن يوميا في الأسواق(المولات) ولا أحد يتعرض لهن بسوء.
ما أريد قوله هو التفكير بكل ذلك وبغيره من عشرات الشواهد التي قد لا تبرئ المجرم من جريمته القائمة على الكراهية للدين الإسلامي لكن سيكون من شأنها أن لا تعالج الجريمة من كونها قضية شخص مجرم ومنحرف إلى قضية مجتمع بذات الصفات لأن معالجة كهذه إنما تتناقض مع الحقيقة أولا, وتبخس حق الأغلبية الفاضلة ثانيا, أما ثالثا فأراه الأخطر بين الإفرازات لأنها تعالج القضية باساليب قد تحول القاتل من مجرم إلى بطل في عيون نسبة من أمريكيين قابلة للزيادة بفعل الإيحاء لهم من خلال سلوكنا على عقلياتنا غير المنصفة .
إن رد الفعل هنا يجب أن يصدر من /أمريكي/ مسلم/ حريص/ على طبيعة المجتمع الأمريكي ولا يصدر من مسلم إنعزالي ويفكر دائما بعقلية الضحية, لأن ذلك من شأنه أن يدق إسفين بين المسلم الأمريكي والمجتمع ويجعل هذا المجتمع حتى في حالة التعاطف وكأنه يفعل ذلك في نصرة قضية لغريب وليس في نصرة قضيته.
حينما كنت طالبا في جامعة نيويورك في بداية السبعينات كتبنا نشرة جدارية علقناها على جدار النادي رسمنا فيها صورة للسيد المسيح مصلوبا تحت عنوان اليهودي الغادر ممثلا بيهوذا الذي خان المسيح وظننا انها ستفيدنا في الصراع الذي كان على اشده بيننا وبين الإسرائليين, لكن مجموعة من الطلبة الأمريكين سرعان ما اثاروا إنتباهنا إلى حقيقة ان النشرة تنتج عكس ما نريده من واقع أن العقلية الأمريكية قد تجاوزت الثقافة العرقية ضد اليهود, وسيكون الأفضل لو أننا تعاملنا مع الجريمة الحالية بإقترابات ذات علاقة بالثقافة الأمريكية المعاصرة. وأجزم أن علينا ان نفعل ذلك مع اية قضية ذات علاقة مشابهة كأن لا نذهب إلى تحويل الجريمة من مشهدها الشخصي لنجعل منها جريمة يتحملها المجتمع الأمريكي نفسه, ثم ان علينا أن نقترب منها من خلال ثقافة المجتمع ذاته كأن نرفع صورا تجمع بين القاتل وبين هتلر ولافتات تدين الجريمة كونها موجهة بالأساس ضد المجتمع الأمريكي نفسه بدلا من أن نركض سريعا لجعلها حالة أكيدة خاصة بواقع كراهية الأمريكين للمسلمين, وإن هذا من شأنه أن يجعل المجتمع الأمريكي ضد القاتل بدلا من أن يحوله إلى بطل ويوسع بالنتيجة من الكراهية ضد المسلمين في أمريكا.
مقالات اخرى للكاتب