كلما تطوّر علم الفيزياء ، إستعرَ فضول الإنسان عن أصل المادة ، وعن مكوناتها ، هكذا كانت ثورة الفيزياء دون الذرية والتي قادها كل من العلماء العظام (نيلز بور ، تومسون ، رذرفورد ، شرويدينغر) وغيرهم ، فقد قالوا ان المادة الملموسة تتكون من ذرات ، كل ذرة عبارة عن نواة موجبة تدور حولها إلكترونات سالبة الشحنة كي تكافيء جذب النواة لها ، بمعنى آخر إنها كالنظام الشمسي ، ولكن فضول الإنسان العادي وغير الأكاديمي يسأل (وهذا من حقه) ، ما هي أجزاء البروتون والنيوترون وهي مكونات النواة ؟ ثم ممَّ يتألف الإلكترون ؟ وفي الواقع فقد إختصر لنا أينشتاين العظيم الإجابة مطلع القرن العشرين ، من إن أصل المادة طاقة صرفة ، أي أن المادّة ما هي إلا طاقة مكدّسة بشكل يفوق التصور ! ، وأن من الممكن تحويل المادة إلى طاقة أو بالعكس حسب نظريته الأشهر في التاريخ (E=mc²) ، أي أن الطاقة (E) مقاسة (بالإلكترون.فولت) مساوية للكتلة (m ، مقاسة بالكيلوغرام) مضروبة في مربع سرعة الضوء (البالغة 300 مليون متر/ثانية) ، ولكن العلماء أرادوا إنشاء سُلّما للوصول إلى عتبة المادة- الطاقة ، فافترضوا عدة جسيمات اُخَر غير الجسيمات دون الذرية الأساسية والتي تسمى (الهادرونات Hadrons) وهي (الإلكترون، البروتون، النيوترون) ، قادهم هذا الإفتراض إلى المزيد من التخبّط ! ، منها التوصل إلى الكواركات (Quarks) ، التي يُقال انها تؤلف البروتون ، وجسيمات (هيغز Higgs) وغيرها ، وهذا الأخير قد تم إكتشافه عمليا في مختبر مصادم الجسيمات في مختبر (سيرن Cern) العملاق بين فرنسا وسويسرا والمسمى (Large Hadron Collider, LHC) ولا زال الفضول قائما ، فما أجزاء هذه الجسيمات ؟ فتوصلوا إلى نظرية (الأوتار String Theory) ، والتي بمقتضاها ، ان هنالك حقلا للطاقة الصرفة على شكل وتر يهتز بتردد معين ، قيمة هذا التردد هو الذي يحدد هوية الجُسيم- الأم.
ولكن ماذا عن الضوء ؟، ولا يزال يعجز عن فهمه عتاة الفيزيائيين ! ، فمنذ أيام (نيوتن) ، كان الإعتقاد السائد ، أن الضوء عبارة عن سيل من الجسيمات أسموها (فوتونات Photons) ، هي المسؤولة عن فعل الإبصار ، لكن سلوكها الموجي المحيّر كالتداخل (Interference) والحيود (Diffraction) والإستقطاب (Polarization) ، لا يدل على إنها مجرد جسيمات مادّية ، فقالوا عنه أنه يتحرك على شكل موجات كهرومغناطيسية (Electromagnetic Waves) ، ولكن كيف يتحرّك جُسيم مادي بسرعة الضوء ؟ والنظرية النسبية لآينشتاين تبين (عند بلوغ جسم ما سرعة الضوء ، فستصل كتلته إلى المالانهاية) ! ، فماذا عن الفوتون ؟ فقالوا أنه جسيم مادي كتلته تساوي صفر ! ، ونحن نعلم أن المادة تعني كتلة ! ، وأن سرعة الضوء تتباطأ عند دخوله مجال كثيف كالزجاج ، لكنه يتسارع عند نفاذه إلى الفراغ ، فمن أين أتت طاقة التسارع تلك ؟ لا أحد يجيب ! .
ولكن تجربة عملية بسيطة للغاية ، قد خلطت الأوراق ونسفت كل شيء ، فالجسيمات المادية الأساسية منها الإلكترون ، يسلك بهذه التجربة هو الأخر سلوك موجة كهرومغناطيسية ! ، تدعى هذه التجربة (تجربة الشق المزدوج (، Double Slit Experiment) أو (تجربة يونغ Young Experiment) ، والتي أنشأت أصلا لفحص موجات الضوء ، وتتلخص التجربة بوجود حاجز مجهّز بشقين متوازيين ، تقع خلفه شاشة لإسقاط الضوء ، وأمامه مصدر ضوء ، يقوم الحاجز بإعتراض الضوء ولا يسمح له بالمرور إلا من خلال الشقين ، وعليه ستخرج موجتان (لنتصورها مثل موجات المياه) ، من الشقين تعاني من التداخل البنّاء (Constructive Interference) بعد أجتيازهما للشقين ، تنتج عنها عدة أهداب طولية (Patterns) ساطعة تتخللها عدة أهداب مظلمة ناتجة عن التداخل الهدّام (Destructive Interference) ، أي أن الشاشة ستكون (مقلّمة) ، مما تثبت السلوك الموجي للضوء ، لكن عند إستبدال مصدر للضوء بمصدر للإلكترونات وهو جُسيم مادي ، فإنه يُنتج نفس الأهداب ، وهذا ما حيّر العلماء ، فراقبوا التجربة بإضافة عدة كواشف لقياس موقع الإلكترون بدقة ، لكنهم فوجئوا بوجود شقين فقط ! ، اي نفس المنطق المتوقَّع لقذف كرات متعددة خلال شقين ، فستصدم بالشاشة راسمة هدبين فقط ! أي أن الإلكترون لا يسلك سلوك موجي عند مراقبته ! ، ولكن إذا (أشحت بوجهك) عن التجربة فسترى أهدابا مقلمة عديدة ! ، وكأن الإلكترون يلعب (الغميضة) معنا ! ، وحتى عند المراقبة ووجود هدبين فقط ، فقد إزدادت حيرتهم لأنهم يرون في بعض الأحيان ، أن الإلكترون وكأنه ينشطر إلى إلكترونين ، أي أن إلكترونا واحدا يرسم هدبين ، تصور كرة واحدة يقذفها لاعب ، فتصيب مَرمَيَين !! .
من هنا برز مبدأ (السلوك المزدوج للمادة The Dual Aspect of Matter) ، في فيزياء الكم (Quantum Physics) ، لكن أينشتاين ضحك قائلا (هل يلعب القمر مثلا الغميضة معي وأنا أراه في السماء ، ثم يختفي عندما أشيح بوجهي عنه) ؟!.
نحن مزهوون بإنجازاتنا الإلكترونية وبتكنولوجيتنا العالية ، رغم تعثر فهمنا للمادة وأصلها والضوء ، وهي ظواهر بمتناول يد الجميع ، لكننا نرى أنفسنا ندور بحلقة مفرغة ، فسبحان الله ، أي سرّ هذا الذي أودعه في المادة ولا زلنا بعيدين عن إدراكه ؟! ، فتبارك من قال (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ، ونحن مبهورون بهذه (القلة) من العلم ، وكأنها (وعد إلهي) يتحدانا !
مقالات اخرى للكاتب