ثمة الكثير من الصور والأحداث الراسخة في ذهني، على مدى 21 سنة أمضيتها في سلك التعليم، ففي هذا العام الذي تتوزع فيه العلاقة بين زملاء المهنة الكبار، وبين اطفال بعمر الورود، تولد كل يوم حكاية جديدة، ولعل من بين اغرب تلك الحكايات، واكثرها مدعاة للدهشة، هي التي عشت تفاصيلها اوائل العقد الثمانيني من القرن الماضي، حيث شاءت المصادفة ان اعمل مع مدير مدرسة من طراز فريد بمعنى الكلمة، فهناك مدراء متشددون، ويفتقرون الى روح الود مع زملائهم، ومثل هذه النماذج التي تطبق القانون بطريقة متشنجة و (يابسة)، وتخلو من المرونة، يمكن ان تتلمس لهم عذرا، وتلتمس تبريرا، بداعي الحرص او أمانة المسؤولية الى آخر الأعذار الواهية، ولكنها في الاحتكام إلى أنظمة المدارس وقوانينها مقبولة، ويستطيع ملاك المدرسة التكيف معها، غير أن هذا الرجل الذي ندعوه (ابو صباح) -العراقيون ينادون بعضهم البعض بالكنية، ابو فلان او ابو فلانة- لم يكن متشددا او هنبليا في تطبيق القانون، بل كان شيئا من الجبروت المسلط على رؤوس زملائه، فقد حول غرقته إلى غرفة وزير، يجلس فيها وحيدا، ولا يسمح لأحد من المعلمين دخولها، لان لهم غرفتهم الخاصة بهم، فاذا اراد معلم ما الوصول اليه من اجل قضية معينة او تقديم اجازة او حالة طارئة، فعلية إبلاغ (الفراش)، الذي يطلب له الإذن من المدير !! هل كنا جبناء ام مسالمين بحيث اكتفينا بصدور عامرة بالغيظ، وبالصمت المطبق، فلم نعترض او نحتج او نرفض، ربما خوفا من الظهر العريض الذي يستند اليه المدير، وما تهيأ له من نفوذ كبير وقوة غاشمة، لا قدرة لنا على مواجهتها وكان عزاؤنا الوحيد هو سيل اللعنات اليومية التي نكيلها اليه في جلساتنا الخاصة، غير أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لمعلم التربية الزراعية ومادة الجغرافية (ابو محمد) ذلك الرجل الذي يتحلى بأخلاق القرية، وشجاعتها، ويحمل في وجهة الصرامة والليونة، وعينين صغيرتين كأنهما مثقوبتان بإبرة مع بصر حاد يحسد عليه، فقد كان على الدوام يشن حملات علنية على المدير، ولم يتورع عن وصفه بالطاغية، (لم تكن مفردة الدكتاتور شائعة يومها)، نعم وحده أبو محمد من قال للمدير وجها لوجه، وأمامنا جميعا، (أنت طاغية، ولا يشرفني العمل معك)، وكانت تلك المواجهات تغمرنا بالسعادة، لأنها تعبر عن مشاعرنا الحقيقية، وأصواتنا المكبوتة، وكنا ننظر اليه بإجلال عظيم، لأنه يمثل صورة البطل الذي نتمنى تقليده، ولكننا ضعفاء موشومون بالخوف!! ذات صباح حضرنا كالعادة الى الدوام، وفوجئنا بصدور امر إداري من التربية يقضي بتعيين (ابو محمد) بدرجة معاون، وفي ضوء ذلك هيأ له المدير منضدة خاصة الى جواره، وتم انتقاله من غرفة المعلمين بصورة نهائية، وبات الوصول اليه لا يتم الا بإذن، والمرة الوحيدة التي رأيناه فيها، كانت في الاجتماع السنوي الذي يسبق امتحانات البكالوريا، والجملة الوحيدة التي نطق بها طوال الاجتماع (أنا متفق تماما مع المدير في كل كلمة قالها) ولم نشعر لحظتها بالحزن على فقد أمهاتنا كما انتابنا أمام ذلك الموقف، لان الطاغية أصبح طاغيتين، وقبل ذلك لان البطل ... مات!!
مقالات اخرى للكاتب