لستُ أشمت بخروجك يا حاج نوري المالكي.
أنا فقط فرح كغيري من إننا استطعنا أخيراً وضع حد لتهوّرك.
لقد وضعتَ العراق كله في صندوقٍ صغير واقفلت عليه بمفتاح واحد، وحدها حنان الفتلاوي تعرف مكانه.
قتلتَ كل خيارات العقل واهدرت كمية الاحترام الباقية بعدم الانسحاب طوعاً. كم تمنيّت أن تنسحب بأخلاق الفرسان وتقول للجميع، ها هوذا نوري كامل المالكي، زاهدٌ في منصبٍ مقيّد بتوافق "الأعداء" وشراكة "الأصدقاء". عفطة عنز لا أُريدها، مثلما قالها علي بن أبي طالب قبلك.
تمنيّتها بصدق، لكنك حاربتنا حتى في أمنياتنا ولم تدع لنا خياراً نحلم به حين لم ينصفنا واقعك.
لستُ أعيّرك بسقوط مدننا بأيدي وحوش داعش، فقد يحصل هذا الشيء في زمان أي رئيس آخر وفي أية دولة اخرى.
لستُ أعيّرك أيضاً ببعث الميليشيات وتجييش الشارع في مواجهة الغزاة القادمين من حفر التاريخ، فلقد فعلها رئيس الولايات المتحدة الامريكية إبراهام لنكن قبلك، حين إنهار جيشه العظيم وسقطت ولاياته بأيدي الانفصاليين الجنوبيين وانفصلت سبعة ولايات لتشكّل دولةً مستقلة تحت مسمّى "دولة جنوب أمريكا الكونفدرالية".
لا بأس ان نتحدّث قليلاً عن لنكن أمريكا.
كان عام ١٨٦١ عام النار في امريكا بسبب إعلان الرئيس لنكن بيان "تحرير العبيد". ذلك التحرير الذي يقضي على إقتصاد الجنوب برمّته بسبب اعتماد ٦٠٪ من مواطنيهم على تجارة العبيد وخدمتهم في المزارع والمعامل والمصانع. بلغة القروي الجنوبي المتكبّر، لا يمكن ان يقبل الجنوبيون بمساواتهم مع عبيدهم السود أبداً. لذا إندلعت في ذلك العام الحرب الأهلية الأكبر دموية في العالم بين ولايات الشمال بقيادة الجمهوري المنتخب شرعاً إبراهام لنكن وبين ولايات الجنوب السبعة المنفصلة تحت رئاسة جيفرسون دافز.
كانت حرباً لأسباب إقتصادية بالنسبة للجنوبيين الكونفدراليين وأخلاقية بالنسبة للشماليين الإتحاديين.
إنتصر الجنوب بجنرالاتهم العسكريين على قوات الدولة النظامية وأخذوا يتمدّدون شمالاً وغرباً على حساب تقهقر المؤسسة العسكرية الرسمية. كان ذلك بدعم واضح من الفرنسيين والبريطانيين. إنهار جيش الولايات المتحدة الأمريكية وهرب كبار الضبّاط قبل صغارهم.
إنقسم البلد، وخرجت ولايات الجنوب من سلطة الشمال، ولم يتوقف التدخل الخارجي بعد، فالسلاح والدعم والتشجيع يصل من الخارج وعلى رأسهم فرنسا وبريطانيا لأسباب سياسية وإقتصادية.
ما أشبه هذا الوضع بوضع العراق اليوم!
لم يعد بمقدور لنكن فعل أي شيء سوى إطلاق النفير العام وتجييش اكبر ميليشيا عرفها التاريخ.
طلب من المواطنين المدنيين الإلتحاق فوراً بتشكيلات "ميليشيات الإتحاد" وجنّد اكثر من عشرة ملايين رجل، درّبهم ضبّاط عسكريون محترفون. كسبَ دعم الكنيسة في حربه الأخلاقية لتحرير العبيد، وخلقَ أكبر لوبي مساند بشخصيته القوية وخطابه المؤثر. عرفَ كيف يصنع الفارق بتحدّي مجنون في زمن تسقط فيه ولاياته كقطع الدومينو المتهاوية. أدرك حجمه جيداً فلم يعربد بخطاب التهديد للخارج وحاول كسب الفرنسيين والبريطانيين الى جانبه او تحييدهم على الأقل.
بالفعل نجح في كسب البريطانيين تماماً حين إستمال نخبتهم وإعلامهم وتجّارهم، فيما حيّد الفرنسيين تقريباً حين قطعَ الطرق على سفنهم المحمّلة بالقطن الى ولايات الجنوب، ولعبَ على وتر المقايضة التجارية معهم.
كان أغلب الجمهوريين من حزبه يرونه متراخياً غير حازم، فيما كرهه الديمقراطيون بسبب عقدتهم الحزبية ورؤيتهم له كجمهوري متشدد. مع هذا وبفعل حنكته السياسية، إستطاع لوحده كسب العامل الخارجي بإحتراف، ليسهل عليه الإنشغال بمشكلة الداخل المتمرّد.
آمنَ بثنائية السياسة والقوة فأخترق عواطف الجنوب بخطاب العبيد الأخلاقي وشقَّ عليهم عبيدهم ونخبتهم وبعض أغنيائهم. سَحَبَهم للشمال وجَعَلَهم يقاتلون مع ميليشيات الإتحاد أبناء جلدتهم وناسهم في الجنوب. حرصَ على إختيار ضبّاط أكفّاء متمرّسين في قيادة تشكيلات ميليشياته ووَضَعَهم تحت إمرة القائد العام الجنرال يوليس غرانت. ذلك القائد الذي على يده تحقّقَ إنتصار الشمال وهزيمة الجنوبيين عام ١٨٦٥، بعد أربع سنوات من الدماء المهدورة وصل عدد الضحايا الى أكثر من مليون ونصف المليون.
إنتصر لنكن لأمريكا ووَحَّدَها من جديد في دولة واحدة موحدة. إنتصر للعبيد وجرّمَ العبودية للأبد في تعديله للدستور عام ١٨٦٥. إنتصر حين إنتخبه الديمقراطيون والجمهوريون معاً للرئاسة مرةً ثانية، فقُتِل في ولايته الثانية على يد ممثل أمريكي حاقد ومتعاطف مع دولة الجنوب المنهارة.
هكذا هي بإختصار سيرة واحد من أعظم رؤساء أمريكا في التاريخ.
لستَ إبراهام لنكن يا حاج. دعني أهمسها في إذنك.
لستَ إبراهام لنكن يا حاج، فلَمْ تدافع عن العبيد بل خلقتَ عبيداً جدد.
لم تعرف كيف تهادن "الفرقاء" وتناور "الأعداء" كإبراهام لنكن، فصرتَ تصرخ خمس مرات باليوم إنّهم سبب الفشل والإنهيار.
ماذا كنتَ تتوقّع حين أرتضيت أن تكون رئيساً للوزراء؟
هل كنتَ تتوقّع إنّهم سيصفّقون لمملكة "الأقارب" التي نسجتها فوق عرش البلاد حكومةً علينا؟
أرجوك إهزم عنادك، وتقبّل الواقع، وإقبل بما أراده ثلثا العراق، ومعهم جيرانهم وأصدقاؤهم وأعداؤهم.
أرجوك إترك لنا شيئاً نمدحك به، فاللعب بعواطف الشارع وتأنيبهم على خيار التحالف الوطني العراقي، حيدر العبادي، أشبَه باللعب بالنار، سيحرقك وما تبقّى من إئتلافك، قبل أن يحرقنا معك.
هكذا إبتلعها أياد علاوي سابقاً، فأنصحك أن تفعل مثله.
لقد فشلتَ يا حاج وليس هذا عيباً أبداً. العيب أن تصر على أهلّيّة موهومة لم نرَها فيك في ثماني سنوات.
العيب أن تستمر باللعب في حقل اللغة وتجريف معاني الألفاظ حين تُسمّي فعلة حيدر العبادي بالخيانة لأنه إنشق عن إئتلافك، في حين أطلقتَ لقب الوطنية والشجاعة على مَن إنشقوا من إئتلاف علاوي عام ٢٠١٠.
لماذا الإنشقاق عنك خيانة وعن الآخرين وطنية؟ أليس الانشقاق واحد؟
لستَ إبراهام لنكن يا حاج. أرجوك إفهمها.
لن تستطيع إرجاع العراق الى ما قبل العاشر من حزيران الماضي، فدعنا نُجرّب أحداً غيرك.
مقالات اخرى للكاتب