أعتادت الولايات المتحدة الامريكية ومنذ ظهورها كقوة عظمى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، الى تبني سياسة صناعة او البحث عن الاعداء كجزء من سيتراتيجيتها في الهيمنة على عالم مابعد انتهاء الاستعمار القديم المتمثل ببريطانيا وفرنسا ، وكانت الولادة الغير ميمونة لهذا النهج في برلين عام 1945 وسقوط الرايخ الالماني الثالث ..بعد ان تقاسمت هذه المدينة مع الاتحاد السوفيتي ، ليبدء صراع الارادات بين هاتين القوتين العظمتين التين تقفان على طرفي نقيض ، في اديولوجية الحراك السياسي والفكري والاقتصادي ..فكانت ازمة برلين وتقسيمها بداية لتقسيم العالم الى معسكرين خلقا توازنا دوليا استمر لعقود خضعت له اغلب دول العالم ، تمثل بنشوء حلف شمال الاطلسي (الناتو ) عام 1949 ميلادي تلاه حلف وارشو عام 1955 ميلادي الذي اقامه المعسكر الاشتراكي كردة فعل ، ليتنامى هذا الصراع ويتحول الى اسوار فكرية وثقافية بين الطرفين ، نتج عنه اسوار مادية كجدار برلين الذي شطر هذه المدينة الى نصفين اشتراكي وراسمالي عام 1961 ميلادي ..وكان هذا الجدار باكورة لبداية الحرب الباردة بين المعسكرين ، استطاعت امريكا من خلالها تمرير الكثير من سياساتها الامبريالية والانتهازية في العالم ، وجعلتها وسيلة للهيمنة ، من خلال ايهام شعوب وحكومات الغرب والعالم بخطر المد الشيوعي المحدق بها وطرحت نفسها كقوة حامية للنظام الراسمالي العالمي ..وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990 ومن خلفه المعسكر الاشتراكي المتمثل بمعظم دول اوربا الشرقية ، تفردت امريكا بالعالم كقطب اوحد وامسكت بكل خيوط لعبة السياسة الدولية ، فعمدت على البحث عن عدو بديل ليساعدها على خلق حالة من الحراك السياسي السلبي والذي يصب بالمحصلة لصالحها ..ووقع الاختيار على نظام البعث في العراق لتخلق منه عدوا وهميا ووحشا كارتونيا لها وللعالم الحر على الرغم من انه احدى صنيعاتها بقول القيادي في هذا الحزب علي صالح السعدي بعد انقلاب شباط الاسود عام 1963 ميلادي ..( وصلنا الى الحكم بقطار امريكي سائقه بريطاني وركابه عرب )..فبعد دعمها لصدام حسين لثمان سنوات في حربه مع الجارة ايران انقلبت عيله بين ليلة وضحاها ليصبح خطرا يهدد امنها القومي ، بعدما جائت به الى السلطة بانقلاب تموز 1979 وازاحة البكر عن السلطة ..كما جاء في (مذكرات خالد جمال عبد الناصر) .. والتي ذكر فيها قصة اللقاء الذي جمع والده الرئيس عبد الناصر مع رئيس جهاز المخابرات الامريكية بحضورعضو مغمور في تنظيم حزب البعث وذلك قبيل تنفيذ انقلاب شباط... (يقول خالد بعد نهاية اللقاء وذهاب الضيوف قال لي والدي هل عرفت الشاب الذي كان يجلس معنا؟ قلت لا, قال هذا شاب عراقي يدعى صدام حسين وهو عضو في حزب البعث ومن المنفذين لعملية اغتيال عبد الكريم قاسم الفاشلة, واضاف قائلا: هذا الشاب سيكون يوما ما رئيسا للعراق)..فسعت امريكا الى تقليم اظافره وابقائه ضعيفا على مدى اثنا عشر عام منذ اخراجه من الكويت عنوة عام 1991 ميلادي الى حين اسقاطه عام 2003 ميلادي ، عانى الشعب العراقي خلال هذه الفترة والتي سبقتها من بطش هذا النظام ورئيسه وتجرع الموت والجوع بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرض عليه من قبل مجلس الامن ، بسبب حماقات نظامه الدموي ، وبينما كانت دوائرها الاستخباراتية ومعاهدها السيتراتيجية تعد العدة لانهاء نظام صدام ، كانت تعمل بالجانب الاخر على صناعة عدو جديد لها يعمل على ديمومة بقاء سياسة الهيمنة لديها ، وكانت هذه الاستعدادات تجري منذ عقود بعيدا عن المشرق العربي في معسكرات المجاهدين العرب في باكستان وكويتا ..التي كانت تشرف امريكا بصورة مباشرة على تجنيدهم وتدريبهم وتسليحهم لمقاتلة السوفيت في افغانستان ، والذين شكلوا النواة لتنظيم القاعدة الارهابي فيما بعد ..والافغان ابناء قبائل البشتون من الطلبة الدارسين في المدارس الدينية التي كانت تثقف على الفكر السلفي الجهادي والذين عرفوا فيما بعد بما يسمى (حركة طالبان) ..وبعد اكتمال انسحاب القوات السوفيتية من افغانستان عام 1992ميلادي تنفيذا لاتفاقية جنيف وسقوط نظام محمد نجيب الله على يد الاحزاب والحركات الاسلامية ،والتي دخلت في صراع عسكري على السلطة ،دام لسنين سارعت الولايات المتحدة الى اعطاء الضوء الاخضر لحركة طالبان والقاعدة الى اجتياح هذا البلد والسيطرة عليه عام 1994ميلادي وتطبيق الشريعة الاسلامية فيه ..لتبدء اولى مراحل الصراع الطائفي وليفصح هذا الفكر الدموي المتطرف عن حقيقته فكان اول ضحاياهم قبائل الهازارة الشيعية حيث قتل الرجال وبيعت النساء والاطفال كجواري وعبيد في الاسواق وشرد الجزء الكبير منهم والذي يبلغ تعدادهم باكثر من مليوني نسمة ، ثم قاموا باعدام قادة حزب الوحدة الشيعي ومنهم زعيم الحزب عبد العلي مزاري عام 1995 ميلادي .. واعدموا عدد من دبلوماسين السفارة الايرانية في كابول بدوافع طائفية ، الا ان الولايات المتحدة قد غضت الطرف عن هذه الاعمال الوحشية التي تمارسها هذه الحركة بحق الشعب الافغاني والاقليات فيه ، لانها كانت تسعى الى تغيير دفة الصراع في العالم من صراع سياسي اديولوجي الى صراع طائفي بين المسلمين انفسهم ..وبغض النظر عن الظروف الغامضة والملابسات التي احاطت باحداث 11 ايلول عام 2001 ميلادي وتدمير برجي التجارة العالمية في نيورك من قبل تنظيم القاعدة ومن خلفه حركة طالبان التي كانت تحتضنه وتأويه ويعمل في كنفها ..سارعت امريكا الى بناء تحالف دولي كبير لبدء مشروعها التوسعي في العالم فأنهت اسطورة طالبان ، ووجدت ملاذا اخر لتنظيم القاعدة باستطاعته ان يمارس فيه ساديته ووحشيته بحرية اكبر فاختارت العراق وجعلته محطة استقطاب لكل المنتمين لهذا التنظيم في العالم لوجود الحافز الطائفي فيه المتمثل بالاغلبية الشيعية والتي استلمت الحكم بعد اقصاء دام لقرون ، لكن الاحداث المتسارعة التي مر بها عالمنا العربي بظهور مايسمى الربيع العربي وسقوط الكثير من الانظمة فيها بتشجيع غربي ، سارعت امريكا الى اضعاف هذا التنظيم كونه يحمل في ابجدياته بعض العداء لها من خلال قتلها للقائد الروحي لهذا التنظيم اسامة بن لادن .. ليحل محله ماسمي بالدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش ) ، والذي اسست بدوافع طائفية اقصائية ، وليست لديها اي مشكلة مع امريكا واسرائيل ،ضمن خطة (عش الدبابير) ، التي تعمل على استقطاب واستدراج كل ارهابي العالم الى هذه المنطقة ، وبعد ان فعلت داعش مافعلت من قتل وتدمير وتهجير وانجزت مهمتها في هاذيين البلديين الذين هما جزء من محور الشر الذي اشار اليه الرئيس بوش الاب في خطاب الذي القاه عام 2002 اضافة الى ايران ليبيا وكوريا الشمالية وكوبا .. واحدثت شرخ طائفي ومناطقي كبير في مجتمعيهما لايمكن اصلاحة او رتقه بسهولة ، هاهي امريكا الان تعد العدة للقضاء على هذا التنظيم الارهابي من خلال تحالف دولي جديد ..واعتقد بانها سوف تنجح في ذلك وسيتلاشى كما تلاشت انظمة الربيع العربي والتي كانت ايضا من صنيعتها .. لكن ماذا بعد داعش ..؟..وماذا ترسم امريكا للعراق والعالمين العربي والاسلامي في المستقبل القريب ..اظن ان الايام حبلى بما يخبئه العم سام في مرحلة مابعد داعش.
مقالات اخرى للكاتب