الدكتور جينس بيكر صديق ألماني رائع أحبه كثيراً، تعرفت عليه في جامعة بون الألمانية، يعمل أستاذاً وباحثا في معهد الاستشراق التابع للجامعة، درس الإسلام واللغة العربية في جامعة بون ،درس وعاش نحو عام كامل في دمشق، عندما تعرفت عليه وأبلغني انه متخصص في العلوم الإسلامية، كان سؤالي الأول مفاجئاً له، هل تعرف شيئا عن الحسين "عليه السلام"؟ فقال: لماذا !، قلت: إذا لم تعرف شيئاً عن الحسين "عليه السلام" فما عرفت عن الإسلام شيئاً، الغريب إن جينس سكت لحظات ثم قال: لقد قرأت الكثير من الكتب عن الإسلام باللغتين الألمانية والعربية ولكن أبلغ عبارة قرأتها وهزتني بعمق هي خطبة الأمام الحسين(ع) وتحديداً تلك العبارة التي تقول "أما من مغيث يغيثنا، أما من ناصر ينصرنا" هذه العبارة تكشف عن مدى الجحود الإنساني عند أولئك الناس الذين شاركوا في مذبحة كربلاء، وقال: مقتل الحسين يذكرني بصلب المسيح، هذا ما قاله صديقي جينس عن الامام الحسين(ع) ولم أكن طامعاً بأكثر من ذلك لأني اعرف إن الجامعات الأوروبية تدرس الإسلام اعتماداً على مناهج لا تهتم كثيراً بمقتل الحسين وأصحابه (عليهم السلام) وتتعامل مع هذا المفصل التأريخي الكبير كحادثة عابرة في إطار الصراع السياسي على السلطة.
الجامعات الأوروبية التي تتوفر فيها دراسات إسلامية لا تتوقف عند واقعة كربلاء ولا يعرف طلبتها سوى معلومة سريعة وعامة عن خروج الحسين (عليه السلام) على يزيد "خليفة المسلمين" ويمرون مروراً سريعاً على هذه الواقعة دون إطلاع كاف على التفاصيل، المشكلة إن المصادر التي يطلعون عليها لا تهتم ببحث هذه الواقعة وتتحدث عنها كمجرد حادثة تاريخية عابرة، ولم أجد إلا الشيء القليل في كتابات المستشرقين عن واقعة كربلاء، وإن وجدت إشارات عابرة فإنها تدور في فلك النظرة المادية التي أغفلت جوانب الثورة الروحية والاجتماعية، هذا كله دفعني إلى تشجيع صديقي الألماني الدكتور جينس بيكر على دراسة ثورة الامام الحسين (عليه السلام) فبدأ بتدوين الملاحظات التي أقولها له عن هذه الثورة وعن شخصية الحسين (عليه السلام)، ولعل نظرته كانت أكثر النظرات حيادية وموضوعية بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى العاطفية والعقائدية، فهو كاتب وباحث مسيحي أوروبي لكنه تشرب بالمصادر ذاتها التي غذت المسلمين، ما جعله أكثر تفهماً وموضوعيةً فضلاً عن علميته ومهنيته، وهو ما جعل إدراكه للقضية الحسينية إدراكاً علمياً واعياً بعيداً عن عين العاطفة التي ننظر من خلالها نحن محبي الحسين "عليه السلام" الى واقعة كربلاء وما قبلها وما بعدها.
لقد تحدثت وتناقشت معه كثيراً بشأن واقعة كربلاء بمختلف الجزئيات، آتياً على كثير من الشرح والتحليل لمختلف الأبعاد والزوايا، وحاولت الإجابة على كثير من الأسئلة التي تكتنف الثورة وشخصية الحسين (عليه السلام)، لماذا حدثت هذه الملحمة وهل كان هدفها دنيوياً؟ ولماذا أقبل الحسين (عليه السلام) على الشهادة؟ وما سر كلماته وصرخاته؟ ولماذا أخذ معه الأطفال والنساء؟ الأمر الذي جعل مدة هذا النقاش تطول لعدة أشهر، وأتذكر إن جينس قال لي مرة ضاحكاً: لقد درست الإسلام على المذاهب السنية الأربعة، فهل تحاول أن تجعل مني شيعياً !، وقال: أنا عالم مسيحي أوروبي وأحاول أن أفهم الإسلام وقد مررت على واقعة كربلاء بصفتها حادثة في إطار الصراع السياسي على السلطة لكنك أثرت انتباهي الى دراسة هذه الواقعة والى دراسة الإسلام مجدداً، قال: إنك تجعلني أعيد النظر الى الإسلام بعين مختلفة.
وفرت له بعض الكتب بالعربية التي تبحث في واقعة كربلاء، كان هدفه علمياً بحثياً ولكن ما إن تعمق أكثر وتوسع تاريخياً حتى تولد لديه شعور خاص بعظمة الحسين (عليه السلام)، تلك الشخصية التي ضحت من أجل الدين والمبادئ وكي لا ينحرف المسلمون عن الرسالة وحتى يضمن دوام العقيدة وانتقالها من جيل لجيل، فإنه إن لم يضحِّ بهذه الكيفية الوجدانية الصارخة لما حدثت هذه الرجة العنيفة في النفوس والتي حفظت الدين الإسلامي، وبعد أيام التقيت به وحدثني قائلاً: استوقفني ما حدث عند رد السبايا إلى دمشق إذ خرج السنة والشيعة والنصارى أيضاً وضربوا الجنود ورشقوهم بالحجارة لأنهم اهتزوا وجدانياً، وكذلك في حمص قاموا بضرب الحراس ومنعوا عنهم الماء لأنهم منعوا آل بيت رسول الله من الماء، إنها مبادئ إنسانية فجرتها ثورة عاشوراء، وقال هذا ما دفعني أيضاً إلى المواصلة في دراسة هذه القضية.
كنت أريد أن أعرف كيف يفهم العقل الأوروبي واقعة كربلاء من خلال عقل صديقي جينس لاسيما وأنا اتعامل مع عقل علمي أكاديمي بعيداً عن النظرة العاطفية التي نتعامل نحن من خلالها مع الحسين (عليه السلام)، قلت لصديقي جينس، كيف ترى الحسين (عليه السلام) بعد هذه الدراسة المعمقة، لابد أنك وصلت إلى موقف من شخصيته ، فما هو من وجهة نظرك؟، قال: توصلت الى قناعة بأن الحسين (عليه السلام) هو ضمير الاسلام والإنسانية ولولاه لانتهى الإسلام، فالإسلام بدأه النبي محمد (ص) واكمله الحسين وزينب (ع)، فلو لم يقم الحسين (عليه السلام) بثورته لما تبقى شيء من الإسلام أساساً، ولأصبح الدين الإسلامي مرتبطاً بممارسات الحكام الذين يفرضون على المجتمع القبول بهم والرضوخ لجورهم واضطهادهم مهما حدث باعتبارهم ولاة للأمر، وأكمل صديقي جينس: إني أعتقد بأن الحسين (عليه السلام) كان سائراً في هذا الاتجاه لأن له وظيفة محددة، كما للأنبياء وظائف الهية محددة. ولكن مع الأسف، فإنه على الرغم من أن الحسين (عليه السلام) شخصية مقدسة عندكم أنتم المسلمون ولا سيما الشيعة، إلا أنكم لم تعرفوا قدره وأهملتم جوهر تراثه وثورته وتمسكتم بالمظاهر الطقوسية، إذ الواجب عليكم أن تعرفوا كيف تنصروا هذا الإمام العظيم اليوم من خلال قول الحق ونصرة المظلوم وإصلاح المجتمع وتحقيق العدالة والحرية، والمفترض أن تكون لديكم أمانة تامة بتوصيل صيحته يوم عاشوراء إلى العالم، وهذه الأمانة تستدعي التعمق بأركان وروحية حركته الثورية وعدم الاكتفاء بالسردية والمظهر الخارجي للواقعة، لقد تعلم الزعيم الهندي غاندي أكثر مما تعلمتم أنتم منه حيث قال (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر..) غاندي مصلح تأثر بشخصية المصلح الأكبر الحسين بن علي (عليهما السلام)، وصحيح ان قصة الحسين (عليه السلام) دموية إلا أنها في الوقت ذاته كانت سلمية لا عنيفة، ومن هنا انتهج غاندي منهجية اللاعنف فاستطاع توظيف المظلومية في الانتصار على الاستعمار البريطاني، تماماً كما فعل الحسين (عليه السلام) عندما جرى توظيف مظلوميته على مر التاريخ للحفاظ على مبادئ الحرية والعدالة.
مقالات اخرى للكاتب