صدق من قال «إن الإعلام مهنة المتاعب»، بل اليوم أضيف إليها مهنة العوز والمصاعب بعد أن طالت شريحتها عواقب الأزمة المالية التي يعيشها البلد، والتي طالت الجميع من غير استثناء، وما يميز هذه التي تسمى بـ «السلطة الرابعة» ان أغلب العاملين فيها هم من الأدباء الذين لا يفقهون في هذه الدنيا غير منجزهم
الإبداعي.
وبالتالي إذا ما سرحوا من عملهم هذا فسيجدون أنفسهم هم وعائلاتهم وسط دائرة العوز والفاقة، لاسيما ان أغلب أدباء العراق هم تحت جشع مالكي العقارات لكون أغلبهم يعيش تحت وطأة الإيجار، وما زاد الطين بلة ان هناك أخبارا مفادهــــا ان المنحة السنوية المقررة ستختفي هــــــذا العام بسبب الضائقة المالية التي تعيشها الحكومة، الأمر الذي جعل بعض الوكالات الاخبارية والصحف والفضائيات تسير الى الغلق وتسريح العاملين فيها من غير سابق
إنذار.
غياب الضمان للإعلامي في استطلاع أجريناه مع بعض الإعلاميين ممن طالهم التسريح وممن لا يزالون يعملون ويخشون المصير نفسه، بينوا ان السبب الرئيس هو في غياب العقود التي تحفظ حقوق الصحفيين حين يصيبهم مثل هذا الحيف.
الكاتب والاكاديمي نبيل وادي بين لـ «الصباح»، أن من أهم عيوب المؤسسات الإعلامية العراقية انها لا تبذل جهدا واضحا عند تأسيسها في الاهتمام بموضوع الاعلان التجاري وغالبا ما يكون هذا القسم من اضعف الاقسام وهو نافذة مهمة من نوافذ التمويل في المؤسسات الإعلامية غير المدعومة من الدولة او الحكومة، وهذا ما أشارت اليه العديد من البحوث في مجال اقتصاديات الاعلام التي تمت مناقشتها في المؤسسات الإعلامية الرصينة، وهذا يؤدي بالنتيجة الى معالجة ذلك بتسريح العاملين بنسب عالية تصل احيانا الى 50 بالمئة او اكثر».
وعزا ذلك الى عدم وجود صلة بين الاعلامي والمؤسسة التي يعمل فيها بشكل مباشر دون المرور بحلقة تضمن للاعلامي حقوقه مثل نقابة الصحفيين او اتحاد الصحفيين او النقابة الوطنية للصحفيين او المؤسسات المماثلة، ونظرا للحاجة فان الصحفي يعمل وفق الشروط التي تضعها المؤسسة وليس وفقا لشروط مشتركة وهو ما يسلب حق الإعلامي في الغالب، ويرى وادي ان العمل الاعلامي وهذا إحد عيوبه او مزاياه لا يعتمد على المخرجات الخاصة بمهنة الاعلام كما هي حال الطب او الهندسة فمثل هذه المهن لا يمارسها قانونيا إلا خريجو الطب والهندسة، في الوقت الذي يستطيع الطبيب او المهندس ممارسة العمل الإعلامي.
ويرى وادي ان الحل هو بضرورة أن تقوم المؤسسات النقابية بتضخيم مواردها من خلال المنح الحكومية والاستثمار وغيرها من الوسائل التي تكفل ضمانا للإعلامي العاطل عن العمل.
الإعلانات أسهمت بالتسريح
عبد الهادي مهودر - مدير تحرير جريدة البيان التي توقفت عن الصدور منذ عدة اشهر لأسباب مالية - بين أن «هناك أسبابا كثيرة أدت الى غلق عدد من وسائل الإعلام وفي مقدمتها الصحف وكانت النتيجة تسريح عشرات الصحفيين والإداريين، لكن المشكلة المالية هي الأكثر وضوحا في هذه الأزمة، ومنذ بدء انطلاق الحريات الصحفية بعد العام 2003 لم تحل مشكلة التمويل وتوقفت عشرات الصحف المملوكة للاشخاص، ولم يستمر منها غير عدد قليل بصحفيين يعدون على الأصابع، وألقت حالة التقشف مؤخرا بظلال قاتمة على المشهد الصحفي، فقد انقطع عن بعضها التمويل وجفت مواردها من الاعلانات ولم تعد وزارات ومؤسسات الدولة تدفع للصحف مستحقاتها من الاعلانات المنشورة في العام 2014 بحجة عدم إقرار الموازنة في ذلك العام، كما لم تعد تدفع للصحف مستحقاتها عن نشر الإعلانات الجديدة، كما حصل مع جريدة «البيان» التي توقفت عن الصدور للأسباب المذكورة».
مبينا ان الحكومة هي الاخرى لم تجد صيغة قانونية واضحة تسمح لها بدفع مساعدات مالية طارئة للصحف حسب مطالب رؤساء التحرير الذين التقوا حول هذا الموضوع في نقابة الصحفيين، كما ان سياستها التقشفية لم تسمح لها بذلك، وفي الوقت نفسه هناك من يتحفظ على طلب الدعم الحكومي كونه يمس استقلالية الإعلام، وقد اصطدمت آمال الصحفيين وتحركاتهم بواقع صعب، وأوضح مهودر انه في نهاية المطاف دفعت أفواج من الصحفيين الثمن وزادت أعداد الصحفيين العاطلين ولم تعد المؤسسات المتبقية قادرة على استيعابهم، ولا بد اليوم من تفكير جدي وإعادة صياغة لواقع المؤسسات الصحفية ووضع صيغ عمل وعقود ضامنة للعمل الصحفي، كما أن على الجهات التشريعية والتنفيذية القيام بواجبها لدعم وسائل الإعلام الوطنية وتمكينها من بناء مؤسسات صحفية رصينة الى جانب توفير الاجواء المناسبة للعمل الصحفي.
إهمال الدولة للمثقف
الروائي والإعلامي علي عبد العال، يرى أن «البؤس والشقاء طالا أغلب شرائح المجتمع وبمختلف الأزمات بموجات تصاعدية مع فقدان بريق الأمل بنهايتها أو إيجاد الحلول لها، واليوم كما يقول عبد العال يطال الأمر في هذه المرحلة أرقى شرائح المجتمع، إنهم المثقفون والصحفيون وأصحاب الكلمة الحرة عن طريق إجراءات تقشفية مثيرة للاستغراب من شأنها تحجيم العمل الإبداعي لهذه الشريحة المهمة من المجتمع، وتحيلهم رويدا رويدا إلى مستوى الفقر».
واستغرب عبد العال ان هذا التقشف الحكومي لم يمس بجدية المصالح المالية الكبرى التي تتمتع بها فئة قليلة من الطفيليين الذين يخربون أكثر مما يبنون، وإنما يجري التوفير على حساب الطاقات الإبداعية والكلمة الوطنية الحرة وأصحاب المواقف التي تنير الدرب للعراق الجديد لكي يتم محوهم من الخارطة السياسية ليجعلوا من المثقف والصحفي خادما لمن يدفع أكثر، أي ليصبحوا مجرد مرتزقة أقلام لا منتجي أفكار، مبينا ان الإجراءات الحكومية الأخيرة بإعلان التقشف الذي يطال شريحة الصحفيين والمبدعين العراقيين بدلا من تشجيعهم وجزل العطاء لهم ماديا ومعنويا كما تفعل جميع الدول المتحضرة لهو دليل دامغ على إهمال هذه الدولة وعدم تفهمها لمخاطر هذه الإجراءات التعسفية غير المبررة وغير المنطقية في هذا الوقت بالذات.
سلسلة من الأزمات
فيما يرى الكاتب والصحفي جمال كريم انه في البدء علينا أن نقر بأن أزمات العاصفة، أزمة متصلة بأخرى، بمعنى اننا محاصرون بسلسلة من الأزمات على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مبينا ان لكل ازمة اسبابا وعوامل أدت لظهورها وهيمنتها، والبطالة سواء في ميدان الإعلام او غيره من الميادين الاخرى، فضلا عن الأزمات المستفحلة في مختلف مفاصل الحياة ليست وليدة ذاتها على الإطلاق، بل هناك دواع لظهورها لا تخفى على ذوي الاختصاص من المسؤولين، من هنا أحسب والحديث لكريم أن تسريح الصحفيين من عدد من وسائل الاعلام يقف وراءه سرطان الفساد الذي أنتج الأزمة في بيت مال البلاد، هذا فضلا عن كون الإعلام العراقي ما زال يعاني من التبعية الحكومية، أو تبعية ذوي النفوذ السياسي والمالي، بمعنى أدق ليست هناك مؤسسة إعلامية عراقية مستقلة بالمرة، باختصار ما دامت البلاد تتهددها الأزمات المتصلة، فإن مصير كل الفئات وشرائح المجتمع المختلفة سيكون كالحا وخطرا وليس مجهولا فحسب، وهذا يشمل الإعلاميين بالتأكيد بحسب قول كريم.
الفقر أو تحريف الحقائق
القاص والإعلامي حامد الحمراني يقول: إن «المخطط رهيب وخبيث وغاية في الدقة، فالهدف إفراغ الوطن من الكفاءات والنخب والقوى المؤثرة وزرع اليأس بعدم إمكانية التغيير بعد اكتشاف كذبة الفقر بالعراق، والأدوات نماذج هزيلة ممن يلهثون وراء السلطة والمال وما أكثرهم، والمنهج مجموعة من الإجراءات وأهمها محاربة الإعلاميين وهي ليست نهاية المطاف ولكنها صفحة مؤثرة وفاعلة لما لها من تاثير فعال وضاغط لما تفعله المؤسسات الاعلامية في تصحيح القراءة للمشهد السياسي ومتابعته والوقوف أمام التزييف والفساد وإفشالهما».
واضاف الحمراني: «صناعة إعلامي يتاجر بمنجزه لكي يعيش هي أفضل طريقة لتصدير رأي مغلوط وزائف لأصحاب الامتيازات ولمن يعنيهم تحريف الحقائق والسماح لهم بالاستمرار في فسادهم اعتمادا على فقر الصحفي وتهديده بالموت الإنساني وليس البايولوجي».
الكاتب حميد عمران الشريفي أوضح أن «الأوضاع التي تعيشها هذه الطبقة قاسية جدا، والإجراءات التي تطالهم من خلال إحالتهم الى قائمة البطالة وحجب المنحة السنوية عنهم، سيزيدهم مع عائلاتهم معاناة وأزمات لا يمكن تصورها، وهي تعيدنا الى الأوضاع التي كان يعيشها الإعلامي والمثقف في أيام النظام المباد بعد أن سكن الرصيف، أو هاجر من أجل ضمان العيش».
داعيا الحكومة والجهات المعنية الى النظر لهذه الشريحة بعين الرعاية والاهتمام لا بعين الإهمال وإيجاد الحلول التي تضمن لهم ولعائلاتهم الحياة الكريمة.
حجب المنحة مشكلة
الإعلامي عبد الجبار خضير عباس، أكد «أنه بعد مرور البلد بالعاصفة الاقتصادية جراء هبوط أسعار النفط، كان الإعلاميون أول من تلقى صفعة الإرباك الحكومي في الدولة الريعية، حين سُرحوا من الصحف والقنوات الفضائية بسبب انعكاس الضائقة المالية على تلك المؤسسات. وبما ان الإعلاميين في غالبيتهم يعانون من مستويات معيشية متدنية، ولا توجد لديهم فرص عمل أخرى متاحة، حيث إن العراق يعاني من أزمة بطالة حادة ومتفاقمة، وفي ظل هذه الظروف، يشكل حجب المنحة لدى بعضهم مشكلة صعبة. السؤال الكبير، لماذا حجبوا هذه المنحة عنهم وهي لا تشكل سوى أقل من تسعين ألف دينار في الشهر؟ ولك أن تتخيل عند مقارنة هذا المبلغ بما ينفقه حماية مسؤول في الدولة! والمضحك المبكي، هذا المبلغ التافه هو أول ما فكر به عباقرة الاقتصاد والسياسة لمعالجة الأزمة الاقتصادية!، وتفسير ذلك كما يراه محدثنا، لاعتقاد البعض أن الإعلاميين والمثقفين في اللاشعور يشكلون موضع ازدراء وقرف عند السياسيين، ويعدونهم من الأصناف الضارة وغير المفيدة والتقرب منها يندرج في خانة إسقاط الفرض المغلف بالمنة المباركة، علما والحديث لعباس انهم يتفهمون دورهم في صناعة المعرفة، ورفع الوعي الاجتماعي، وخلق صيغ جديدة للحياة، عموماً إذا أردنا أن نفسر هذا التوجه نحو حجب المنحة عن الصحفيين والمثقفين وهو بمثابة الكارثة، يفسر نزوع السياسي اللا شعوري بكرهه للمثقف، إذ إنه يعده شخصاً هامشياً حكمت عليه الآلهة بإطاعة السياسي وعليه أن يكون تابعاً ذليلا يسبح بحمد الحاكم، لكنهم خرجوا عن طاعته بتصدرهم التظاهرات، لذا جاءت العقوبة فورية بحجب تلك
المنحة.
مقالات اخرى للكاتب