بعد إنقلاب 17تموز عام1968 , ومجيء البعث إلى السلطة , تم تعيين أحد ضباطهم المشاركين في الأنقلاب العقيد الركن علي هادي وتوت محافظاً للديوانية , بعد أن أنهى دوره في محاكمة المتهمين بالعمالة للصهيونية ,كما يدّعون وهم من كبار تجار يهود بغداد والبصرة الذي بلغ عددهم (27) عراقياً , ومن ثم محاكمة مجموعة من المعارضين لسلطة البعث من الضباط الأحرار كان أحدهم العميد الركن جابر حسن الحداد وآخرين , كانت طريقة المحاكمة أن صدر الحكم مسبقاً بالإعدام شنقاً حتى الموت للتجار اليهود المدنيين , والحكم بالإعدام رمياً بالرصاص على الضباط العسكريين المتهمين بتآمرهم على الثورة .
عندما حلَّ علي هادي وتوت محافظاً على مدينة الديوانية , أخذ يتفنن في متابعة أصحاب المهن الحرة وأصحاب المطاعم , ومتابعة تطبيق الشروط الصحية , فقررّ في يوم ما وعلى طريقة ولاة القصص وملوكها , أن يتنكّر ويذهب للتأكدّ من الأمر بنفسه , فلبسَّ الملابس العربية متمثلاً بملابس فلاحي الجنوب , من الدشداشة والكوفية والعقال واضعاً النظّارة السوداء , والسؤال عن أسعار الأكلات الشعبية ليلاً في المطاعم , ومحلات المرطبات والألبان , وأسعار الخضرة .
ذات يوم تنكر كحالته ودخل مطعم خضير في صوب الشامية , الجانب الصغير .
أخذ ركناً ثم نادى على السفرجي, وهو من يأخذ الطلبات , وقف السفرجي على رأسه وبدأ يسرد الأطباق والأكلات المتوفرة بشكل سريع بما تتطلبه مهنته وعمله : جلاوي , معلاك , كباب , تكة , كص على تمن , كص , قوزي, تشريب , يابسة , بامبية , أسود .....
ضاق علي هادي وتوت بالسفرجي , فطلبَّ متأففاً بلهجة ريفية جنوبية :
- بروح أبيّك جيبلي نص تكّة .
استدار السفرجي نحو جهة المطبخ وعامل الشوي المتخصص وهو يطقق بالملاعق وبصوت عالي.
- عندك نص تكّة للسيد المحافظ , وداريّ .
أكمل السيد المحافظ مشواره في الأكل (متزقنباً ) نص نفرّ التكّة , خارجاً من المطعم وهو يتأفف بسبب أكتشاف شخصيته .
ثم عادّ السيد المحافظ إلى شارع الصيادلة في الديوانية يتعقبه مفوظ من الشرطة المحلية للحماية , قاصداً محل صغير للكادح (زوّاد) , المحل مختص لبيع اللبن للمستطرقين , يقع مقابل محل سلمان الطبل لبيع الفواكه والمعلبات المستوردة على اليمين من الشارع , طالباً (كاسة) لبن , كان القصد من مرور المحافظ على المحل ليتأكد من تطبيقه للشروط الصحية , كان يقدم زواد للزبائن اللبن بكاسات الألمنيوم (طاسة) .
قدم زواد اللبن للمحافظ وهو يردد كلمات الأحترام والتقدير :
- تفضل استاذ لبن عمل خاص للسيد المحافظ.
- ................
وبخّه المحافظ طالباً توقيفه وفق المدة القانونية للتجاوز وعدم تطبيق الشروط الصحية في محل الكادح زواد.
بعد أن أحيل على التقاعد علي هادي وتوت , أصبح جليس داره في مدينة الحلة , حتى وجد ميتاً مستنداً على كرسي في حديقة بيته , كان هذا نموذج من محافظي الديوانية , ينفذ ما تطلبه سلطة النظام البعثي أيام الستينات من القرن الماضي .
مقالات اخرى للكاتب