في مرات كثيرة لا أعرف ماذا أفعل حين أقرأ ما يكتبه بعض المحسوبين على مهنة الصحافة، هل أضحك من العبث والكوميديا السوداء، أم أصمت من شدة الكآبة والحزن، من أبرز المضحكات والمبكيات التي حاصرتني الأسبوع الماضي ما كتبه أحدهم يقول "إن أهم ما حققته الحكومة هو التجربة الديمقراطية التي تعد الأفضل في المنطقة "
لا أريد أن ألوم صاحب المقال، فقبله قرأنا ما هو أكثر كوميديا، حين كتب أحدهم أن العراق ولد من جديد عندما تولى رئاسة الوزراء نوري المالكي.
ينسى البعض أن من العبث أن تبذل مجهودا كي تحاول إقناع عاطل عن العمل ، بأن الحكومة الحالية غيرت مصائر الناس نحو الأحسن، ومن السذاجة أيضا أن تحاول ذلك مع أرملة تنتظر أن تلتفت إليها الدولة.. إن تقييم البسطاء وإحساسهم الفطري يظل أحد المعايير المهمة في الحكم على التجربة السياسية، خصوصا عندما نتكلم عن الحكومات التي تعاقبت بعد عام 2003
حتى هذه اللحظة فإن كثيرا من العراقيين لا يزالون يحتفظون بصورة للراحل عبد الكريم قاسم معلقة على جدران بيوتهم، وسألت البعض لماذا تفضلونه؟ فكان ردهم بجملة واحدة "إنه كان واحدا من البسطاء"، سيقول البعض إن عبد الكريم قاسم أجهض الديمقراطية، وكانت ممارساته السياسية يشوبها الكثير من الارتجال، لكنه وبشهادة أعدائه وفّر للبسطاء من الناس الكثير من الأشياء المهمة، أبرزها سكن لائق، الحق في العلاج والتعليم، توزيع الأراضي على الفلاحين، الإصرار على دعم الصناعة الوطنية، إشاعة روح المواطنة .
بعد عشر سنوات من التغيير أعتقد أن العراقيين مستعدون أن يسامحوا حكومة المالكي على الكوارث التي مرت بهم خلال السنوات الماضية، إذا شعروا بأن هناك بصيصا من الأمل يحمله الغد إليهم .. يستطيع إعلام الحكومة ومريدوها أن يكتبوا ما يشاؤون عن نوايا الحكومة وخططها المستقبلية وعن الخير الذي تخبئه للعباد، لكن المواطن المسكين يريد أشياء ملموسة، هذا المواطن لن تسد الديمقراطية جوع أطفاله، هذا المواطن لن توفر له شعارات براقة مثل " عزم وبناء" و "متحدون" و"لبينا النداء" و "محافظتي أولاً وأخيرا"، سكنا لائقا ولا علاجاً صحياً في مستشفيات متطورة .. هذا المواطن لا يمكن الضحك علية بشعار "القضاء على الفساد" وهو يرى أن الكهرباء وحدها نهبت من أمواله أكثر من ميزانية دولة مثل مصر، هذا المواطن لن يساعده شعار "انتخبوا أخي"، ولا شعارات العائلة السعيدة "انتخبوا ابو حاتم" ولا يهمه هذا الوفاء الكبير الذي تحمله المرشحة لزوجها المتوفى حين أصرت على أن تضع صورته بدلاً من صورتها.
المواطن يحتاج إلى أن يطمئن إلى أن ابنه أو أخاه لن يعود إليه اشلاء متناثرة بسبب الفساد الأمني، هذا المواطن الفقير الموجود في القرى والنواحي يريد طرقات نظيفة، يريد عملا يوفر له الحد الأدنى من متطلبات الحياة، لا يريد أن يقضي الصيف في بيروت والشتاء في دبي، يريد فقط أن يأكل ويشرب ويلبس. يريد تعليما ينمي أحاسيسه ومعارفه ولا يحوله إلى طائفي و متطرف، يريد أن يضمن أن كل ما أنفقه على أولاده من أجل التعليم سوف يجد مقابله وظيفة عندما ينهون دراستهم الجامعية، يريد مستشفى به الحد الأدنى من الإمكانات التي لا تجعله يموت من سوء الخدمة، يريد مواصلات آدمية، لا تجعله يكره نفسه، أو يقضي معظم يومه في الشوارع المكدسة بكل أنواع السيطرات والوجوه المتجهمة لقواتنا الباسلة.
هذا المواطن البسيط لا تشغله كثيرا معارك المالكي مع العيساوي، ولا خطب العلواني وشعارات السنيد، هو يريد أن يعيش بقدر ممكن من الاستقرار، وأقل قدر ممكن من الخسائر. هذا المواطن العادي لا تفرق معه هل اكتمل نصاب مجلس النواب أم أنهم متخاصمون في ما بينهم، هذا المواطن لا يريد أن يدخل صراع الأحزاب من أجل إشاعة "الفضيلة والأخلاق الحميدة" ، لا يفرق معه كثيرا هل رئيس الوزراء نوري المالكي أم عادل عبد المهدي أم إياد علاوي، أسامة النجيفي أم إبراهيم الجعفري؟ هو يريد فقط مسؤولين يحققون له حاجات الحياة الأساسية، المواطن يريد رئيس وزراء موظفاً يحاسبه متى أخطا وقصّر، فقد ملّ العيش في ظل مسؤولين منزّلين من السماء، يريد رئيس الوزراء يذهب طواعية للبرلمان لا يستنكف الحديث مع الآخرين.
هذا المواطن لا يريد شعارات دينية وطائفية، فهو بعرف دينه جيدا ويخاف ربه ويحترم جاره، ما يريده المواطن البسيط والعادي، هو أمر رغم بساطته صعب للغاية، لا يحتاج إلى كلام كثير، لكنه يحتاج إلى عمل دؤوب ورؤية وضمير يقظ وروح وطنية.
على السياسيين والمسؤولين الانشغال بهذه الاحتياجات للمواطن البسيط.. إنهم لو فعلوا ذلك ونجحوا فسوف تصبح كل القضايا الأخرى هامشية. ووقتها سيكون لدينا مواطنون يعرفون حقوقهم يصنعون ديمقراطية حقيقية، لا ديمقراطية "عزم وبناء".
مقالات اخرى للكاتب