“كان ودودا جدا، وكان يضحك ويمزح وتحدث عن عائلته”، هذا ما قاله سابور تومي مدير فندق بريستون بارك في برايتون عن خالد مسعود (ادريان رسل اجو سابقا) الذي سكن الفندق قبيل ان يدهس عدداً من المارة وطعن شرطياً حتى الموت أمام مبنى البرلمان في لندن يوم الاربعاء (22/3/2017)، مدير الفندق يضيف “هذا أمر صادم جدا لأنه في هذه الأيام لم نعد نعرف من هم الاشرار ومن هم الاخيار”، هذه العبارة الاخيرة تسجل الازمة التي يمر الانسان بها يوميا عندما يضطر لاصدار حكم على الاشخاصوتكون الازمة معقدة جدا عندما يتعلق الموضوع بالأمن الشخصي والعام، التمييز السريع بين الناس صار ضروريا أكثر في زمن الارهاب، الانتحاري او منفذ عملية الدهس لن يمنح الوقت لأحد كي يتحقق منه، والمقدمات التقليدية لإصدار حكم على شخص ما لم تعد نافعة، مدير الفندق هذا عينة للانسان الذي يريد تقرير هوية انسان آخر لكي يحمي نفسه ويبتعد عن اي ورطة تهدد عمله وتعرضه للمساءلة القانونية ولذلك يدرج العلامات الاولى التي يمكن الاعتماد عليها (كما يظن) للاطمئنان الى شخص، حيث يعتبر إن كون الشخص (ودود جدا، يضحك ويمزح، ويتحدث عن عائلته) أمور تدل على الخير او على ان الشخص محل ثقة، هذه العلامات نعتمد عليها غالبا في اصدار الاحكام على الناس في تعاملاتنا السريعة ربما بسبب التأثر بالدراما والافلام والحكايات الخرافية التي تعطي للمشاهد والمستمع صورة بسيطة عن الشرير.
منذ عقود صار عاديا ان يقول الناس (الخير والشر نسبيان) او (ان الانسان يحمل الخير والشر معا) وهو ما يعني عدم التسرع في الاحكام وتجنب القسوة في العقوبة لكن عمليا يحتاج الافراد والمجتمع الى اراء قاطعة غالبا ولذلك تتم العودة الى قاع الوعي، القاع الغائر جدا حيث تستقر المقولات والاحكام القديمة التي حصلت على لقب (بديهيات) يمنع مناقشاتها، وكلما كان الفرد او المجتمع بعيدا عن التفكير العلمي تكون سيطرة البديهيات أقوى حيث تنعدم محاولة جمع القرائن او اللجوء الى الاحصائيات وتحليل الوقائع، فالمجتمع مثلا يعرب عن سعادته ودعمه لفكرة (التوبة) اي تخلي الانسان عن ارتكاب الاعمال الممنوعة، خالد مسعود وارهابيون آخرون كثر لديهم سجلات جنائية عن اعمال اجرامية عادية (سرقة، عنف، مخدرات،..) لكنهم في لحظة ما توقفوا عن تلك الاعمال “الشريرة” وصاروا كما يصفهم المجتمع “أسوياء” وعادة ما يتحول هؤلاء الى مضرب للمثل عن قدرة الانسان على تغيير مصيره والاستقامة وبناء حياة جديدة ثم يتم نسيانهم ولا يعود الضوء إليهم إلا بعد ان يفجروا المفاجأة وفي أيامنا يكون التفجير بالمعنى الحرفي للكلمة لتكتمل الدائرة التي يمنحها الدين هالة القداسة، اذ ينتقل الانسان من الكفر والفسق والفجور الى الشهادة، ومن هذه البديهية الكامنة في قاع الوعي التي تبدو خطرة جدا اليوم يكون الحكم على الانسان، كثيرون سيقولون علنا ان الدين لا يؤيد هذه الاعمال العنيفة ولا يبررها لكن من يعتقدون بعكس ذلك لن يتحدثوا او على الاقل لن يرفعوا صوتهم ولن يهتموا بتسجيل تأييدهم إلا في حالات نادرة (كما حدث في تفجير برجي مركز التجارة العالمي)، لكن عمليا فإن كل تائب يقوم بعمل ارهابي يتحول الى ملهم لعدة أشخاص وأحيانا لمجاميع وهذا ما يؤكده تزايد أعداد الملتحقين بالجماعات الارهابية، وهذه النتيجة تعني ان ترك الجريمة او العنف ليس بالضرورة ايجابيا لأن الـ(ترك) قد يكون مجرد تحويل في اتجاه الفعل او تطويرا له ومنحه تبريرات أعمق فتتحول المسروقات الى غنائم والاغتصاب الى سبي والعنف الى جهاد.
كل مجموعة مؤمنة بعقيدة ما يغمرها الفرح عندما ينضم إليها عضو جديد فهي تحصل على تأكيد بأن عقيدتها مازالت صالحة ومرغوبة ويفرح الافراد المؤمنون ايضا لإنهم يطردون من اذهانهم فكرة الايمان القسري والاعتقاد بالصدفة نتيجة ولادتهم في مجتمع يؤمن بالعقيدة التي يتحمسون لها اليوم، هم يعتقدون ان أي وافد جديد للعقيدة هو تأكيد اضافي على ان عقيدتهم حقة، لذلك تقام احتفالات للتعريف بالمؤمنين الجدد ويصبحون (أدلة حية) على ان عقيدة الجماعة صحيحة، طبعا كل مجموعة عقائدية لا تهتم بعدد الوافدين على الجماعات الاخرى وغالبا ما تعتبر الالتحاق بعقائد أخرى (دينية او سياسية أو حزبية...) هو نتيجة عملية تضليل او مؤامرة أو بسبب الاغراءات والظروف او بسبب غواية الشيطان بينما يكون الالتحاق بعقيدتها نتيجة للبرهان العقلي والمعجزة الروحية ولمصداقية العقيدة نفسها ونتيجة للعناية الالهية، ولعل عددا من المسلمين احتفلوا يوما ما باعتناق ادريان رسل اجاو للإسلام ومنحوه اسم (خالد مسعود) واعتبروا ذلك نصرا على المجتمع (الغربي العلماني الكافر)، وربما سمع مسلمون آخرون بهذا الاعتناق أو بغيره من حالات اعتناق الاسلام وفرحوا لأنه رسخ قناعتهم بصواب عقيدتهم وهو ما قد يشعر به أيضا المسيحيون والبوذيون والهندوس والشيوعيون والملاحدة والقوميون وانصار البيئة فيما لو انضم اليهم شخص جديد، المشكلة ان المجمتع السعيد بهذا الشخص سرعان ما يتخلى عنه (علنا على الاقل) اذا ما ارتكب جريمة كبيرة ويعلن ان عقيدته بريئة وهي غير مسؤولة عما اقترفه الوافد الجديد ولا يتم الرجوع الى قائمة الحالات المشابهة، وبالنتيجة ان تزايد المؤمنين بعقيدة ما ليس ايجابيا دائما وعلى المجتمع المؤمن بتلك العقيدة التحرز من نتائج هذه الزيادة وتجاوز أوهام الذات في تحليل دوافع المؤمنين الجدد فقد يكون هذا الايمان نتيجة للرغبة بالتعبير عن أسوأ ما في الانسان عبر منفذ هامشي او حيلة شرعية او طقس بدائي أو حكم شرعي غامض أو بإستغلال فراغ أمني وسياسي لمنطقة ما او لنزاع طائفي.
حالة خالد مسعود تشكك في بديهيات اجتماعية وامنية، فهو في سن الـ52 متزوج ولديه أطفال، مستقر ولا يشكو منه أحد ويعمل مدرسا، وهي صفات تجعل منه اجتماعيا أهلا للثقة ومصدرا للطمأنينة لكن منذ سنوات يتزايد عدد المنخرطين في الجماعات المتطرفة ممن يمتلكون الصفات المذكورة، وهو ما يعني ان اعتماد المجتمع على هذه القاعدة “البديهية” ليس في محله لا في الارهاب فقط وانما في السياسة والادارة العليا أيضا، إذ تتراكم حالات فضائحية عن التناقض الصارخ بين التوقعات والوقائع فيما يتعلق باداء اشخاص يحملون شهادات علمية متميزة ومن أنساب أسرية عريقة ويظهرون تمسكا شديدا بالتقاليد الاجتماعية ومطلعون على ثقافات متنوعة ومع ذلك يخيبون توقعات المجتمع عبر تورطهم بالعنف والجريمة والكذب الفاضح.
أزمة القدرة على تحديد من هو الشرير او اصدار احكام سريعة على الافراد من اجل تسهيل التعامل اليومي اعتمادا على قائمة البديهيات الاجتماعية المتوارثة هي نفسها في لندن وبغداد وكل مكان وان كان ثمة خلاصة فهي ان كل البديهيات التي نعتمدها تضعف تتهاوى يوما بعد آخر ولنا جميعا حق الشك في المختص علميا والمسؤول الكبير والمنتسب لأسرة عريقة وفي سدنة العقائد على تنوعها وممثليها الرسميين وغير الرسميين إذ ليس لدى المجتمع المعاصر مقياس للثقة بأفراده وهو ما يتناقض مع تعريف أي مجتمع لنفسه حتى لو عاد الى قواعده الاولى وقال “أنه مجتمع عشائري وديني”.
مقالات اخرى للكاتب