إن أفضل ممارسة نقدية يمكن أن نضعها في الحساب العقلي هي ممارسة النقد الذاتي من داخل المنظومة المنتقدة، فالتحسس والتحقيق والكشف الذاتي وبتجرد الواقعي الذي يبحث عن حلول وليس عن تبريرات هي الطريقة الأمثل لأعادة الحياة للفكرة وليس للتجربة، الفكرة كلما كانت حيوية وتمتلك القدرة على التجدد لن ولم تموت بعنوان موت أو فشل تجربة نسبت لها أو الصقت بها، الفكر والنظريات والرؤى الحية هي من تنتج حلول وتنتج أرهاصات عقلية تستكشف الكثير من الأبواب كي تعيد برمجة وقراءة الواقع، الإسلام كما الماركسية كلاهما اليوم في موضع الأمتحان وفي تماس مع حقيقة حيوتهما الذاتية، ولا أظن أنا كقارئ معرفي أنهما سيفشلان في الأختبار طالما أن هناك أصوات تقرأ وأصوات تنتقد وتمارس النقد بعلمية وأحتراف وتجرد.
أرى أن النقد الذاتي الذي قدمه الكاتب يقع عادة من ضمن تصنيفات المعرفة بالمنشورات الداخلية للحزب، بمعنى أن هذا الجهد النقدي ليس بالضرورة ان يقدم كدراسات نقدية منفصلة عن المراجعة التاريخية التي يجب أن تمر من خلال الأطر الفكرية التنظيمية، فهو أقرب في جزءه الماركسي إلى منشور حزبي، وفي جزءه الدين على النقيض من الجزء الأول محاولة إرشادية بحاجة إلى تعمق أكثر وأستخدام المنطق الجدلي الديني في نقض وتعرية تفاهات الأصولية المتحجرة من فكرية ونظرة الكهنوت المسيس للدين.
لكن هذا لا يقدح في الهدف ولا يقلل من شأن المحاولة ذاتها، فالكثير من القراء ممن ليس لهم أطلاع مثلا في الجانب الفلسفي من الماركسية سيجد صعوبة في فهم الخطاب النقدي، وكذلك سيجد الكثير من الماركسيين ممن لم يقرأ القرآن الكريم ولم يحاول فهم فلسفة الفكرة الدينية سيجد صعوبة أخرى في المقارنة والمقاربة، لذا فكان وجوبا علينا أن نتدخل مرتين في التوطئة وفي جرد الحساب لنكون على قدر مهم من تقريب الفكرة ومحاولة تقديم طبق فكري طازج للعقل الإنساني.
القضية الثالثة والأخيرة في سلسلة الملاحظات النقدية على جهد الأخ والصديق بن مهدي أل غلام ، هو قدرته على أنجاز موضوع فكري دقيق يقارن فيه المقدمات والمعطيات التأسيسية لكل من الإسلام كدين وكفر وما هي المبررات الوجودية بعيدا عن التأويل الديني المعتاد، سواء أتفقنا معه في المخرجات أو تغاضينا عنها لأنها تبقى فكرته الخاصة، وأيضا مارس نفس الدراسة على ميلاد النظرية الماركسية وعازيا أسبابها كما ذكر إلى المعاناة الإنسانية التي تلاقيها الطبقة العاملة في أوربا، قد يكون هذا المبرر بالنسبة لي أنا الكاتب لا يمس واقع الحقيقي بقدر ما في العقلية الفلسفية الأوربية من قدرة على القراءة النقدية للواقع، وقد لا يكون لدور المعاناة المذكورة أهمية في تأسيس النظرية الماركسية لأنها وكنظرية علمية فلسفية لم تكن ردة فعل لواقع محدد، وإلا لو كانت كذلك لشهدنا موتها بمجرد تعديل وتصحيح وضع الطبقة العاملة وما هو حاصل اليوم.
النظرية الماركسية فلسفة خارج حدود زمنها الميلادي ونظرية أقتصادية أجتماعية مترابطو، وقراءة تاريخية لعالم التحولات البنيوية في المجتمع الإنساني، فمن الظلم جدا ربطها بقضية جزئية، المجتمع الإنساني ليس بالضرورة هو مجتمع عمال وكادحين، بل أن البرجوازية في صيغتها المعرفية وممارستها العملية هي واحدة من أعمدة دعم المعرفة والفكر، وبدون وجود طبقة برجوازية وطنية عاملة لم يشهد المجتمع الأوربي ولا أي مجتمع أخر مرحلة تطور وتجديد ومدنية حضارية.
الطبقة العاملة هي طبقة اجتماعية أقتصادية بشرية تحولت من واقعها الأقتصادي القديم الزراعي والحرفي وحتى العبودي وتحت موجبات وضروريات التحول الأقتصادي والسياسي وما رافقه من تحولات عميقة في الوعي، إلى طبقة منتجة ومساهمة في تحريك الواقع الجديد ليس بجهدها الخاص ولا نتيجة تحولات فجائية، بل من قاد التطور الصناعي والمالي والتنظيمي السياسي هي الطبقة البرجوازية المغامرة التي لا يمكنها التخلي عن مصالحها، نعم ولكنها أيضا لا يمكنها التفريط بالمكاسب الاجتماعية التي فدمتها للمجتمع بالتوظيف المالي للفكرة العلمية التي رعتها وسخرتها للتطوير والتحديث.
الحديث عن معاداة البرجوازية وجعلها اضحية وقربان يقدم لتحرير المجتمع من خلال تحرير الملكية واحد من أهم أسباب فشل التجربة الماركسية، لأن عدم الإقرار بالملكية وحق الملكية الفردية التي هي واحدة من النوازع الفطرية أدى إلى تخلف الأنتاج وعدم الرغبة في التجديد والتطوير لانعدام الدافع الذاتي للأدارة الأنتاجية في المجتمع الاشتراكي، لذا فأحترام دور البرجوازية مع تقنين العلاقات بموجب سلسلة متوازنة من العلاقات القانونية الحيادية والإنسانية كفيل بضبط التوازن بين عناصر الأنتاج والحاجة للتطور والسيرورة نحو مجتمع الرفاهية.
هناك قضية حقيقية وأعتبرها جدلية لم يكشف الكاتب عنها ولم يركز عليها بالرغم من أنه تعرض لها في أكثر من مكان وفي أكثر، ألا وهي الخطأ المادي الذي أرتكب بحق الماركسية كما هو الحال في الإسلام الرسالة حين تم تحويل الماركسية من نظرية فلسفية إلى أيديلوجية تمثلت في الحزب الشيوعي على يد لينين والتي تحولت تبعا ذلك من ماركسية علمية نظرية، إلى ما يسمى بالماركسية اللينية وهي الفكرة التي أطاحت بالنظرية في دائرة التحجر وفرضت شروط التنظيم الأيديولوجي الصارم على فكرة حرة عقلية يراد لها أن تتحول إلى نمط ثقافي أجتماعي فتحولت بفعل التحزب إلى مذهبية سياسية لها أعداءها وخصومها الذين يسعون إل محاربتها بنفس النمط الحزبي.
لقد أجهز لينين على الفكرة الماركسية وأوقف مسيرتها التطورية الطبيعية عندما حولها لتنظيم مؤدلج ومؤطر بحتميات وشروط التحزب، مما لم يسمح لها أن تتحرر من أطارها الطبقي إلى أطارها الإنساني، بالرغم من هذا النقد الخفي يعود الكاتب في محاولته النقدية إلى ذات الخطأ الذي أنتقده ليطالب بتأسيس أحزاب أشتراكية جديدة تقوم على ملاحظة نقد التجربة، وتجريب نمط أخر من التطبيق العلمي على وصفه للاشتراكية الماركسية المتوافقة والمتصالحة مع حقائق الواقع دون أنكار الضرورات الواقعية.
كما أجهزت الدولة الأموية حين حولت الإسلام من ثقافة حياتية تدير البنية العقلية وتساعدها في تأسيس كيان اجتماعي وسياسي للمجتمع الجديد، إلى منهج دولة وجعله متدخلا في كل التفاصيل الحياتية للدولة والفرد وإن كان بقراءة جزئية، الخطر الأكبر على الأفكار والفلسفات الإنسانية أننا نحجمها ونختصرها في تجربة فنضعها في سجن التجربة ونتركها تموت ببطء هذا ما أراد أن يقوله سواء كأمنية فكرية أو حاول عدم التصريح به وفاءا لروحه الماركسية ورؤيته النقدية لما يعتبره جريمة تاريخية بحق ماركس والماركسية
مقالات اخرى للكاتب