اشكر الكاتب القديرالأستاذ راجي العوادي على مقالته المهمة " لماذا ارادوها فوضى خلاقة في العراق ؟" بتاريخ 10 تشرين الثاني 2015 . الأستاذ قدم لنا تعريفا لمعنى "الفوضى الخلاقة" سياسيا . وبالحقيقة ان الأستاذ قد سبقني بالكتابة عن هذا الموضوع والذي كنت قد خططت له منذ فترة ولكن من الوجه الاقتصادية .
اول من استعمل مصطلح الفوضى الخلاقة العالم الاقتصادي والاجتماعي الألماني ويرنر سومبرت Werner Sombart (1941-1863) وطوره واشتهر به الاقتصادي الأمريكي من الأصل النمساوي جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter ( 19950-1883) والذي كتب عنه في كتابه المعروف "الراسمالية , الاشتراكية , والديمقراطية " عام 1942. المصطلح اصبح يستخدم في كثير من المجالات منها الاقتصاد , إدارة الشركات , طرق الإنتاج , الإنتاج , التكنلوجيا , الزراعة , و التسويق .
التعريف الاقتصادي للفوضى الخلاقة لا يختلف عن تعريفها سياسيا , حيث جاء تعريف شومبيتر للفوضى الخلاقة " ليس القديم بالراسمالية هو الذي يفرز الجديد , بل ان ازاحته التامه هي التي تقوم بذلك" ويقول أيضا " ان المنافسة الهدامه...هي أيضا تدمير هدام يساهم في خلق ثورة داخل البنية المستمر للعناصر الشائخة والخلق المستمر للعناصر الجديدة". تعريف السيد شومبيتر للفوضى الخلاقة يطابق تماما التعريف السياسي من حيث ان كلاهما يصرحون ان شروط خلق حالة اقتصادية او سياسية مريحة يتطلب الفوضى أولا . حتى يبقى رب العمل منافسا ناجحا في السوق عليه تبني طرق جديدة (تكنلوجيا جديدة , طرق انتاج جديدة , حملة إعلان جديدة , وهاكذا) في إدارة عمله للبقاء على ربحه او القضاء على منافسيه . عدم تبني رب العمل طرق جديدة للإنتاج او لتكنلوجيا جديدة يعني إعطاء المجال لمنافسه للقضاء عليه . وهاكذا , فان رجل الاعمال قد يضطر الى اخذ قرار صعب من اجل البقاء وهو تخفيض عدد عماله او نقل عمله الى احدى الدول ذات الأجور الواطئة . القرار بدون شك سوف يكون كارثيا او قريبا منه على العمال المسرحين عن العمل وعوائلهم ولكن بنفس الوقت يساعد صاحب العمل الاستمرار في تقديم انتاجه الى السوق بكلفة واطئة وبذلك يستفاد المجتمع من تخفيض أسعار سلعته. مثل اخر , انتاج التليفون الذكي قلص الى حدا كبير استخدام التليفون الأرضي , السيل فون , PDAs, MPs , الكامرة , الساعة اليدوية , الحاسبة , والتسجيل الصوتي . وعليه اذا أرادت شركات صناعة الساعات اليدوية البقاء على هذه الصناعة عليهم بصناعة ساعات يدوية مرغوبة من قبل مشتريها من ناحية , اللون , الجذابية , الشكل , المتانة , والوظيفة . واذا ارادت شركات صناعة الكاميرات البقاء فعليهم البحث عن طرق جديدة لتطوير انتاجهم والدخول الى أسواق جديدة . من حسن الحظ , ان عدد الاكتشافات الطرق الجديدة في الإنتاج والتسويق تفوق عدد النافق منها وبذلك استطاع المجتمع الاستفادة من منافعها . الانترنيت لم تكن سببا بتقليص عدد مشتري الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية فحسب بل اصبح وصول الخبر الى المتلقي اسرع وارخص وشجع المواطن استخدام التكنلوجيا الجديدة مثل التليفون الجوال , الحاسوب , والساعة الذكية .
لم يتفق الاقتصاديون على تاثيرات الفوضى الخلاقة على المجتمع الإنساني , فمنهم من يقول الفوضى الخلاقة شرط من شروط التقدم الإنساني لانها تنقل الانسان من احسن الى الاحسن . اخذ على سبيل المثال , صور الكشف المغناطيسي والتي حلت محل الاشعة العادية بدون شك خدم الإنسانية حيث أصبحت صورة مكان الاوجاع اكثر وضوحا ودقة وتصل الى أماكن لم تستطع الاشعة العادية وصولها وبدقة عالية . وسهل التلفون الذكي على الانسان التقاط الصور بطريقة سهلة و بدون الحاجة الى حمل كاميرا وعملية تحميض الصور والتي تأخذ أيام . و صحيح ان التلفزيون الملون حل محل التلفيزيون الأبيض والأسود و اجبر الشركات المصنعة له غلق أبواب مصانعها وإعلان افلاسهم , الا ان الإنتاج الجديد (التلفزيون الجديد) خلق متعة جديدة للمشاهد و بأسعار ليست اعلى من التلفزيون القديم .
الفريق الاخر يقول ان نتائج اقتصادية عكسية تقع على المجتمع من جراء الفوضى الخلاقة . على سبيل المثال هناك الالاف من باعة المفرد في مدينة الكاظمية مثل باعة الاقمشة , الخياطين , باعة الأحذية , أصحاب المطاعم , القصابين , البقالين, الخبازين , باعة الأجهزة الاكترونية , باعة الأجهزة الكهربائية , باعة الساعات اليدوية , محلات الصاغة , باعة أدوات الطبخ , ومهن صغيرة أخرى . لو افترضنا ان كارفور (سوبر ماركت فرنسي الجنسية ) قرر فتح فرعين في مدينة الكاظية , واحد قرب مدينة الحرية والأخر قرب محلة الانباريين خلف الصحن الكاظمي الشريف . السؤال هو ماذا سيحدث لباعة المفرد في الكاظمية ؟ بدون شك سوف يغلق الكثير أبواب محلاتهم ويجلسون في بيوتهم والسبب ان المحلات الكبيرة (سوبر) تستفاد من حجم مشترياتهم والتي تنعكس على كلفتها وهي اقل بكثير من كلفة محلات المفرد وسيتوجه المشترين الى السوبرماركت للاستفادة من رخص أسعاره . النتيجة ان المئات ان لم يكن الالاف من خسر عمله وثانيا ان قلة أجور عمال السوبر ماركت الجديد سوف لن يستطيعوا العيش باستقلال مالي بدون الاعتماد على المساعدات الحكوية , وهاكذا سوف تضطر الحكومة بفرض ضرائب جديدة وعالية على المواطنين بينما يكون المستفيد الوحيد من أرباح السوبر ماركت الجديد هو أصحابه فقط .
المعارضون للفوضى الخلاقة يضيفون مشكلة أخرى وهي عدم استجابة إدارة الشركات الاحتكارية للتغيير او التجديد . وهنا يقولون ان لدى المحتكر أدوات كثيرة تساعده على البقاء حتى وان تخلف انتاجه من حيث التنوع , التجديد , او السيطرة على كلفة الإنتاج. ثلاث شركات في بلد تنتج سيارات تستطيع بها تغطية السوق المحلية والعالمية يصبح من الصعوبة تأسيس شركة رابعة تنافس الثلاث . امام الشركة الرابعة تامين راسمال ضخم , حيازة التكنلوجيا الحديثة , اقناع مشتري السيارة , تامين كلفة الدعاية والاعلان , التسويق , ومئات المشاكل الحقيقة الأخرى . وعليه لا يوجد سبب وجيه لشركات السيارات الثلاث الإسراع في تحسين انتاج سياراتهم او تخفيض كلفة انتاجها . مثل اخر , دي بيرز(De Beers ) يعتبر المحتكرالوحيد للماس الطبيعي في العالم بدون منازع حتى منتصف عام 2000 وذلك بسبب امتلاك هذه الشركات مناجم الماس في دول عديدة , اقناع منتجوا الماس المستقلين ببيع انتاجهم من خلال شركة دي بيرز , و ثالثا تخفيض سعر الماس في السوق العالمية بوجه المنافسين للشركة . وهاكذا استطاعت هذه الشركة حصاد أرباح طائلة من جراء سياستها الاحتكارية ولسنوات طويلة .
يرد المؤيدون لمصطلح الفوضى الخلاقة ان قطاع السيارات لم يعد قطاع احتكاري بفضل حرية التجارة . التجارة العالمية أعطت الانسان الخيار بشراء السيارة التي تطابق ذوقه وامكانيته المالية , وبنفس الوقت فان حرية التجارة أجبرت منتجي السيارات في العالم الى تطوير سياراتهم من حيث المتانة والشكل وبذلك سهلت السيارة الحديثة على المواطن السفر بدون الخوف من العطلات والمخاطر الأخرى . ويقولون ان شركة دي بيرز هي الاخر لم تعد احتكارية واضطرت ان تدخل سوق المنافسة بعد ان دخل سوق الماس دول جديدة مثل انكولا , روسيا , و كندا . ثانيا , قرار بعض شركات انتاج الماس المتحدة مع دي بيرز بترك سياسة الاحتكار, وثالثا , الخوف من مقاطعة المستهلك شراء الماس بعد اكتشاف ان عمليات انتاج الماس في افريقيا ممزوجة بالقتل , الجوع , و عمالة الأطفال.
الفوضى الخلاقة واضحة في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الامريكية ولكن بالمعنى الحضاري والايجابي . مع بداية الحملة الانتخابية يرشح كل حزب ما يقارب 12 مرشحا وخلال 18 شهرا قبل يوم الانتخابات تتم المنافسة بين المرشحين من خلال برامجهم الانتخابية وخلال الوقت يتساقط المتنافسون الواحد بعد الاخر الى ان يبقىى منهم اثنان واحدا من الحزب الجمهوري والأخر من الحزب الديمقراطي . فترة 18 شهرا تمثل الفوضى الخلاقة بكل معانيها , حيث خلال هذه الفترة يقوم المتنافسون بكشف أوراق منافسيهم من يوم ولادتهم حتى يوم وقوفهم امام الكامرات ليعلنوا عن ترشيحهم . وهاكذا يتم خيار الرئيس الاحسن (من بين الموجودين ) لرأسة البيت الأبيض.
العراقيون مع كل الأسف دخلوا في الفوضى الخلاقة اقتصاديا وسياسيا ولكن من بابها السلبي . اقتصاديا , هناك فوضى في الاستيراد وليس في الإنتاج وبذلك لم يستطع البلد بالانتقال الى درجة اعلى في الانتاج والرفاهية. والعراقيون وان كان عندهم انتخابات نزيهة وديمقراطية الا انها أسست على الطائفية والقومية وهاكذا اختار الناخب الشيعي السياسي الشيعي وان كان من الفاسدين , واختار الناخب السني االسياسي السني وان كان من الطائفين , واختار الناخب الكردي السياسي الكوردي وان كان من الفاشلين .
مقالات اخرى للكاتب