بين شاب وكهل ومرأة وطفل, تبدأ قصة مسيرة طويلة كبيرة في معانيها, قصيرة مختصرة في مشاقّها, ترى أفواجا تسير بلهفة وشوق ممزوج بحزن وولاء, ولاء لم يُحدد بحدود المذهب أو الدين أو الطائفة, بل ولاء تجاوز لغة المذهب بعقلانيته وأدلته, منطلقا من أمواج بحر القلوب التي تتكسر عندها كل الحواجز الدنيوية والعقلية, لتجعل القلب حكماً وحاكما, وتجعل من حب الحسين إيقونة تحرك معنى العشق, العشق الذي لم يترك لاختلاف اللغة أو اللون أو الجنس أو العرق أو المذهب أو الدين أي معنى .
كالمحب الوله الذي لا يرى ما حوله , ولا يحس بما يلم به, تراهم أجساداً تتحرك, يحركها وعي الحب والتعلق الذي يأبى إلا أن يكبر ويزداد رسوخا في النفوس, إنها كربلاء, إنها زيارة أربعينية الإمام الحسين, والتي أضحت كصرخة مدوية تجمع شتات الضمير الإنساني, وتعيد الصحوة للنفوس التي خُلقت لطاعة الله.
عجيب امر هذه الظاهرة, ظاهرة نجد فيها إبليس عليه لعائن الله وقد غُلت يداه, فهو وكل جنده وعلى مدى قرون طويلة وظف فيها كل ما يملك من قدرات وإمكانيات وجنود بشرية وشيطانية, من أجل القضاء على هذه الظاهرة, ولم ينجح, بل يرتعد خوفا ورعبا من مجرد الإقتراب من زوار الحسين, فنحن نجد الأخلاق في كل زاوية من زوايا هذه المسيرة, ونجد التراحم والتكافل, والعفو والتسامح, والصبر والبذل والجود والكرم, ونجد وعلى طول الطريق صرخة أشهد أن لا إله إلا الله تصدح بأعلى الأصوات موحدة قوية في أوقات الصلاة.
فكل شيء مسيّر بحُسن وكمال, من خلال وحدةٌ تجمع هذه النفوس, وتُبعد التفرقة, وتحارب الضغينة, وتحقق الأخوة, فهذا يفتح بيته لخدمة أناس لم يعرفهم ولم يرهم في حياته, وهذا يبذل أنواع الطعام على أناس لم يشترط البحث عن جوعهم أو شبعهم, بل هو زاد الحسين, مباح لكل من يمشي في هذا الطريق, وتلك إمرأة أتعبتها سنون العراق المؤلمة, وتقاسمت التجاعيد وجهها مع إمارات الرجاء والفرح لخدمتها زوار أبي عبد الله (ع), وتلك طفلة تتوسل الماشين بلغة واحدة يمفهمها فقط من يُحب الحسين, تتوسلهم المكوث في مضيف أهلها للتشرف بخدمتهم.
طريق يحمل تأريخ طويل, وقصص عظيمة, مُزجت فيها دماء وآهات ومفاخر وبطولات وخدمة وفرحة وحزن ودموع, إمتزجت كل هذه العوامل والمظاهر لتتوحد بشعور يتحقق لدى الكل عند إنتهاء الزيارة, ألا وهو تحقق الراحة والإستقرار النفسي, والعزم على المضي قدما في كفاح الحياة, والإستلهام من هذا الطريق وصاحبه معاني الصبر والجلادة والثبات على المبدأ, وهذا هو من أهم الأمور.
نعم, صدق من قال أن زيارة الأربعين هي مدرسة لوحدها, متكاملة, متناسقة, متراصة, قوتها في عدم وجود قيادة بشرية مركزية تقودها, بل سر قوتها وكما قلنا في البداية, فقط, وفقط , هو تَوَحُّد القلوب بلغة واحدة مفهومة عند كل البشر, وهو ما يبقيها شعلة إنسانية وأخلاقية وتربوية وثورية مستمرة أبد الدهر ..
قد يقول الناس والكتاب والمفكرين والعلماء والمراجع بأن انتصار الحسين(ع) هو انتصار الدم على السيف.
وأنا أقول بأن انتصار الامام الحسين (ع) هو انتصار القلب على الشيطان ..
مقالات اخرى للكاتب