في معرض التعليق حول ماكتبته في صفحة التواصل الإجتماعي والخاص بتصريح المالكي الذي أشاد فيه ببطولة إبنه الخارقة الذي تمت على يده عملية القضاء على وكر التاجر العقابي في الخضراء, فإن أفضلها كان ذلك الذي تمنى فيه صاحبه لو أن الشريط الخاص بحديث المالكي كان مدبلجا بحق. ويشرح لنا ذلك الصديق كيف أنه وهو يشاركنا متعة الفرجة على سقطة لسان المالكي (أتراها سقطة ؟!), فهو لم يترك لمتعته تلك أن تأكل من واقعة أن حديث المالكي كان أشعره بالواقع التافه والمزري والمعيب والمهين الذي قبلنا, نحن العراقيون, أن نعيش في ظله وبما لا يترك مجالا للشك أننا لسنا أبرياء تماما مما نحن عليه من مهانة..
ولست أخالف صديقي كليا في قوله ذاك, فأنا أيضا أؤمن أن الطاغية أو الدكتاتور يصنع نصف نفسه أما النصف الثاني فيصنعه شعبه. ومع إني لا أميل إلى تحميل العراقيين حصة المناصفة في خلق الدكتاتوريات, لكني لا أعدم نهائيا دورهم المتميز في ذلك. وميلي إلى تهدئة الإقتراب بهذا الشكل نابع من إدراكي أن ما من شعب من شعوب المنطقة قد عاني مثلما عانى منه الشعب العراقي, فهو كان قد خضع منذ أكثر من نصف قرن إلى أحداث جسام كان من بينها ثلاثة حروب ماحقة وحصار قاتل, وقبلها كان هذا الشعب ينام على إنقلاب ويفيق على آخر بحيث لم يُترك له أن يستقر على مرام أو أن يعثر على هوية, ثم جاءه الجراد مع الإحتلال الأمريكي ليجهز على البقية المتبقية من الآمال بإمكانية أن تنزاح الغمة في يوم من الأيام.
وكان أبشع ما جاء به الجراد هو الطائفية التي مزقت الشعب وشلت إرادته وإمكاناته على التغيير بحيث لم يعد هناك مجال للحديث عن وجود شعب إسمه الشعب العراقي كحالة مُعرَّفة بالمستويات المعقولة من الثقافة الواحدة والآمال المشتركة والأحاسيس المتناغمة والإهداف الموحدة.
وفي يوم ليس بالبعيد كتبت بهذا الخصوص أقول: لا تتحدثوا عن الشعب, أي شعب, وكأنه حالة تاريخية مطلقة. وفي هذه المرحلة خاصة فإنه لم يعد هناك شعب عراقي في الشعب العراقي, إذ نحن, وفي أكثر الحالات تفاؤلا, إنما نتعامل مع بقايا شعب ليس إلا.
ولأن المثقف الوطني يتعامل مع تفائله ويعمل دائما على تفعيل ذلك التفاؤل فإننا كنا نرد على من يذكرنا بإستحالة التغيير, بأنها ليست المرة الأولى في التاريخ الذي يتحول فيه العراقيون إلى بقية شعب, لكن قصة العنقاء دائما ما تذكرنا بأن هناك ثمة جمرة تحت الرماد, وإن من يديم النفخ فيها بصبر ثم يسوق الريح بإتجاهها سوف يساعد العنقاء مرة أخرى على النهوض والتحليق عاليا.
إن جميع الشعوب الحية لها عنقاؤها وليس الشعب العراقي لوحده, لذلك فإن الحديث عن العنقاء العراقية لا يأتي كموضوعة إنشائية أو بمنحى عرقي, وإنما هو يأتي من واقع قراءة تاريخية سياسية تمنحنا فرصة القول أن المناطق الإستراتيجية الهامة, وفي مقدمتها العراق, إنما تخضع قبل غيرها إلى عواصف من إتجاهات عدة غالبا ما يكون هدفها أن تجعل من هذه المناطق بوابات دخول لتغيير العالم.
وإذا كنا قبل سنة قد عانينا مع كتاب آخرين من نصائح التأييس التي تحاكي قول سعد زغلول ( ما فيش فايدة, غطيني يا صفية ) فإن بإمكاننا أن نعود اليوم لأصحاب تلك النصائح قائلين, أن (بقية) الشعب بدأت تكبر, مع أنا مازلنا بعيدين عن عودة الشعب العراقي كاملا إلى الشعب العراقي, التي تشترط بداية القضاء على الطائفية والإجهاز على الطائفين. ولعلّ شاهدنا على ذلك هذه التفاعلات الإيجابية التي بدأت تتصاعد, وخاصة على صفحات التواصل الإجتماعي, والتي بإمكانها أن تبقي الجمرة حمراء ساخنة تحت الرماد, ففي واحدة من الردود قال صديق وزميل لي, وكان مؤيدا للمالكي طيلة ما قبل حديثه الأخيرالخاص ببطولات إبنه ( لقد كنت أحسبه أفضل السيئين, أما الآن فلا حول ولا قوة إلا بالله).
ثمة حقيقة يجب أن تكون واضحة.. بعض الأنظمة تسقط على دفعات, هناك أولا السقوط الأخلاقي, وهناك ثانيا السقوط السياسي, أما السقوط القانوني فهو الإعلان الرسمي عن موت النظام. الموت الأخير قد يأتي مباشرة أو قد يتأخر قليلا, لكن تأخره لن ينهي حقيقة أن النظام ميت ميت, مع أن ذلك يجب أن لا ينسينا حقيقة أن النظام الحالي هو صنيعة أمريكية إسرائيلية إيرانية, وأن جميع هذه الأطراف ستحاول جهدها أن تؤجل موته السريري, وإن الإعلان القانوني ربما يتأجل كثيرا أو يأتي سريعا نظرا لأن التغيير صار يخضع لعوامل إقليمية ودولية متقدمة على الفعل الوطني الذي كان يمتلك سابقا قدرة وحرية القرار.
وحينما تأتي النهاية علينا أن نتذكر أن للسيد المالكي فضلا كبيرا على إستدعائها, فمن بين أشد أفعاله تأثيرا بهذا الإتجاه هو حديثه حول غزوة الخضراء التي قادها إبنه أحمد, لأن ذلك الحديث كان كشفا سياسيا وأخلاقيا عن موت نظام قد يتأجل سقوطه القانوني حتى أول عصفة ريح إقليمية أو دولية.
واليوم فقد صار بمقدورنا أن نرى أن هناك ثمة جمرة في نهاية النفق وليس مجرد بصيص ضوء.
ودائما دائما هناك تحت الرماد ثمة عنقاء عراقية تتهيأ للطيران.
مقالات اخرى للكاتب