بالرغم من ان الدستور العراقي أكد على ان نظام الحكم في العراق فدرالي, كما واقرّ بحق كل محافظة في تأسيس إقليم خاص بها او بالإنتظام مع محافظات أخرى, وبالرغم من ان الدستور أعطى صلاحيات إدارية ومالية واضحة للحكومات المحلية في إدارة أمور مناطقها وحصر صلاحيات السلطة المركزية في رسم السياسة الخارجية واإقتصادية والأمنية والدفاعية في البلد, الا ان البعض لازال يعمل جاهدا من اجل تحجيم دور الحكومات المحلية وتقليص صلاحياتها لصالح المركز ومعارضة تشكيل الأقاليم وفي ذلك خرق واضح للدستور العراقي وتجاوز عليه.
وقد ارتفعت وتيرة تلك المخالفات الدستورية خلال فترة حكم رئيس الوزراء "المعزول" نوري المالكي الذي طعن في قانون مجالس المحافظات للعام 2013 واحبط كافة محاولات تشكيل إقليم البصرة, كما وشن حربا اقتصادية وإعلامية وسياسية واسعة على إقليم كردستان. وكانت الذريعة هي تقوية المركز والحفاظ على وحدة العراق في وجه النزعات الإنفصالية ومخاطر التقسيم التي تتضمنها مشاريع الإقاليم بحسب زعمه. وقد أعاد المالكي الكرّة اليوم وادعى خلال زيارته الحالية لمدينة البصرة بان تحولها الى إقليم يهدد وحدة العراق.
غير ان تلك التجربة المريرة التي عاشها العراق خلال السنوات الماضية أثبتت وبما لايدع مجالا للشك بان النظام المركزي يشكل اكبر خطر على وحدة العراق وان مشروع الإقاليم لا يحفظ وحدة التراب العراقي فحسب بل يعزز المسيرة الديمقراطية الفتية في البلاد. فتأسيس الأقاليم يقوم على مبدأ تنازل المركز على بعض من صلاحياته لصالح الإقليم وهو ما يعني تقليص تلك الصلاحيات, وبالتالي فإنه يصعب على أي حاكم في المركز أن يتحول الى دكتاتور. فالدكتاتورية تولد عندما تكون هناك صلاحيات دستورية واسعة للحاكم تمكنه من الهيمنة على القرار السياسي في البلاد وبالتالي الهيمنة على مختلف موارد البلاد ومؤسساستها. وبالنهاية تتحول البلاد الى ضيعة للحاكم وعائلته وأقاربه.
والشواهد كثيرة ولا تعد ولا تحصى وخاصة على صعيد المنطقة العربية. واما تجربة حكم رئيس الوزراء العراقي السابق, فهي خير دليل على ذلك. فالمالكي وطوال سنوات حكمه لم يقلص فقط من صلاحيات الحكومات المحلية عندما طعن في قانون المحافظات للعام 2013 بل إنه همش دور السلطة التشريعية والرقابية الممثلة بالبرلمان العراق الذي فشل في استجوابه او استجواب أي من وزرائه الفاشلين ولو لمرة واحدة طوال سنوات حكمه الثمان.
ولذا فليس من المستغرب معارضة المالكي لمشروع لإقليم البصرة لان مثل هذا الطرح سيسد الطريق على ظهور دكتاتورية في المركز. فالمالكي لا زالت تراوده أحلام اليقظة في العودة الى كرسي رئاسة الوزراء الذي يمني النفس بالجلوس عليه مرة أخرى, وهو لايريد العودة الى كرسي بصلاحيات محدودة تمنعه من الإستئثار هو وافراد عائلته يموارد الدولة العراقية التي استباحوها طوال السنوات الماضية.
فعائدات نفط البصرة والبالغة قرابة 700 مليار دولار ذهب معظمها الى جيوب الفاسدين طوال سنوات حكمه, وان انشاء إقليم في البصرة سيعرض كافة الفاسدين الى الخطر وسيحد من نهب خيرات البصرة وهو مايفسر معارضة المالكي الشديدة لهذا الطرح. واما تبريره الواهي لرفض فكرة إقليم البصرة التي يعتبرها تهدد وحدة العراق فهو مردود عليه.
فما يهدد وحدة العراق هي الدكتاتورية, فبعد انقضاء 8 سنوات من حكمه يبدو العراق اليوم مقسما اكثر من ذي قبل, بل فقد العراق ثلث أراضيه لصالح قوى الإرهاب واشتدت فيه النزاعات القومية والطائفية بسبب سياساته الهوجاء والغبية التي أدخلت البلاد والمنطقة في نفق مظلم لا يعلم احد متى يمكن الخروج منه, ولعل فكرة الأقاليم تمثل بصيص أمل للخروج من هذا النفق.
إن الدمار الذي الحقه المالكي في العراق خلال السنوات الماضية لا يعطيه حقا في ابداء رأيه حول هذا الإجراء الدستوري وما على المالكي سوى الصمت وإن لم يصمت فعلى القوى السياسية الأخرى ان تلقمه حجرا فهو آخر من يحق له الكلام بعد أن دمر البلاد والعباد.
مقالات اخرى للكاتب