أثناء مراجعتي لبعض مقالاتي السابقة التي اسعى إلى تضمينها في كتب مصنفة حسب موضوعها، (واخترت العلاقة مع أميركا كأول كتاب، وأكاد أنتهي منه هذه الأيام) وجدت المقالة التالية التي كانت ضمن مقالات عديدة كتبتها قبل أربع سنوات لفضح تزويرات الإنتخابات السابقة. وهاقد جرت الإنتخابات الحالية وأشرفت عليها نفس الهياكل الفاسدة التي وضعتها الولايات المتحدة خصيصاً لهذا الغرض، واستعملت نفس الحاسبات ونفس هياكل الإتصالات المشبوهة التي ارتبطت بشركة "ناشطة" التي تعود إلى منظمة مجاهدي خلق كما كشفنا حينها، ويقوم بالعد نفس البرنامج الذي كتبته شركة غير معروفة في الإمارات العربية المتحدة (وكر الموساد) وهو ما لا يمكن ان يقبله أي بلد يحترم نفسه والذي يعني أن هذه الشركة ومن وراءها هو من يقرر الأصوات ومدى التزوير بشكل مباشر ومدروس.
وقد أضيفت إلى تلك الإمكانيات الإلكترونية للتزوير، البطاقة الذكية، والتي هلل لها على أنها ستمنع أي تزوير، وفي الحقيقة ان أي عنصر إلكتروني يتم إدخاله في الإنتخابات هو مصدر تزوير على نطاق واسع كما بينا في مقالات سابقة في حينها وأشرنا إلى حقيقة أن برلمان هولندا قد منع استعمال الحاسبات في الإنتخابات بعد أن فشل الخبراء الهولنديون في إيجاد أية طريقة لمنع اختراقها وتزوير نتائجها، في الوقت الذي كانت تصر فيه مفوضية الإنتخابات بقيادة المحتال السابق فرج الحيدري على ان "الحاسبات لا تتحيز"! . لم نتابع الإنتخابات ومحاولات تزويرها هذا العام ليس لأنها تبدو أمينة بل العكس، كل شيء يؤكد أنها ستكون مزورة أكثر من أية انتخابات سابقة، إنما هو اليأس من الوصول إلى أية نتيجة، فمحاولاتنا السابقة لم تغير أي شيء، وإن كانت قد فضحت تلك المؤامرات بشكل كبير، لمن يريد أن يعرف الحقيقة.
هذه المقالة كتبت ضمن تلك المحاولات وفيها مراجعة عامة لما حدث في تلك الأثناء، وقد تكون مفيدة كمراجعة أرشيفية للمواطن العراقي للإطلاع على تاريخ التزوير لإرادته، والذي مازال قائماً على قدم وساق، بل ويتطور في أساليبه. ونلاحظ في الخاتمة إني اتخذت نفس الموقف الذي اتخذه اليوم من المالكي رغم كل مساوئ حكمه، ففي الإنتخابات السابقة كانت التزويرات الأمريكية ضده، وفي الإنتخابات الحالية كان الآخرين كلهم أكثر سوءاً منه ومن مجموعته، رغم الخطايا الكثيرة التي يرزح بها. أكرر هنا آسفاً أن الشعب هو المسؤول عن هذه الحالة المؤسفة في فراغ الساحة السياسية من أية جهة يمكن أن يعول عليها، وكانت مسؤولية الشعب قد تمثلت بعدم بنائه لهذه اللحظة، لحظة الإنتخابات، بان يسعى أن يعرف "أوادمه"، فقبل مثلاً دون أحتجاج أن يكون التصويت سرياً في البرلمان، ولم تحاسب أية جهة من الجهات الشعبية، ممثليها في البرلمان على مواقفهم ولم تزعجهم بأية اسئلة عنها، بل اكتفى الجميع بالنقد العام للبرلمان كله، وهذا هو خير ما يتمنى المفسدون والمرشوون الذين يملأون مقاعده. إن مسؤولية هذا الخلل الهائل يقع على عاتق المثقفين العراقيين الذين تخلوا عن مهمتهم في إرشاد الشعب بأمانة إلى ما يحاك ضده، واكتفوا دائماً بنقد الطرف المقابل.
وفي ذهني في هذه اللحظة اسماء مثقفين شرفاء حقاً، لم يستطيعوا تجاوز طائفيتهم أوتحيزاتهم القومية أو الفكرية، ورضوا في أفضل الأوضاع بعين عوراء في النقد، تسلط كل النقد على خصوم جماعتها، فضاعت الأمور وضاع العراق، ومازال في طريق الضياع ولا يبدو أن هناك ما يدعو للتفاؤل بتغيير إيجابي بل العكس، مادام تجاهل خطايا وأخطاء كل لجماعته مستمراً، ومادام الصالح العام ضائعاً، ومادام التصويت السري لا يثير الإهتمام والتمييز بين الشرف واللصوصية ليس أمراً مبدئياً، بل ورقة ضغط انتخابية لدى الجميع، ترفع في وجه المنافسين فقط.
هذه المقالة أدناه لا تمثل إلا جزءاً بسيطاً من أرشيف التزوير في الإنتخابات العراقية وهي واحدة من مقالات عديدة كتبتها في الموضوع في تلك السنوات، إضافة إلى رسم العديد من الكاريكاتيرات. وأنا أنظر إليها إضافة إلى المعلومات التي فيها، كجهد يبين تراجع الأمل عندما نقارن بين الأمس واليوم. فرغم كل فضائح الأمس فقد كان هناك أمل وكان هناك جهد لفضح تلك الفضائح، أما اليوم فيخيم الصمت وفحيح الأكاذيب والتهم التي تهدف إلى النيل من المنافس فقط، وأصبحت الحقيقة العدو الأكبر للجميع، إلا إذا كانت عاهرة يمكن استخدامها كورقة ضغط. وصار قبول العملاء الصريحين لأشد أعداء الشعب وحشية أمراً شائعاً والكتابة ضده تثير الإستهجان والإنزعاج والتوبيخ أحياناً. إن من فشل في مهمته ليس فقط خليط الساسة العراقيين، بل ايضاً مثقفيهم الذين فشلوا حتى في تسليط الضغط اللازم لاحترام الحقيقة ولو بالحد الأدنى، واكتفوا بنقد "الآخر" حيث تكون فعالية جهودهم في حدها الأدنى، حتى إن اخلصوا للحقيقة فيما يكتبون.
إن مثل هذا الحال يشيرنا إلى المستقبل الذي يفترض أن نتوقعه لهذه البلاد، وهي تسير في طريقها للتحول إلى وكر آخر لاستخراج وتبذير النفط وانتاج الإرهاب لحساب أعدائها وأعداء البشرية، اسوة ببقية دول الخليج التي ابتليت قبلنا بما ابتلينا به اليوم وسارت على هذا الدرب لتتحول إلى زومبيات تتنفس في انتظار انتهاء نفطها لتحتضر، والمخطط لنا أسوأ بكثير من تلك الدول.
****
المستحيلات الأمريكية الغريبة ومؤامرات فرض حكومة تمدد المعاهدة على الشعب العراقي
صائب خليل
27 آذار 2010
يواجه العراق قمة المؤامرة للإجهاز على الديمقراطية المترنحة التي يأمل الشعب ان يجعلها تقف على قدميها. وكعادتها، فأن أجندة الجهات المتنفذة في الولايات المتحدة بالنسبة للدولة التي تحتلها (العراق) كانت تقتضي تقويض الديمقراطية وتحطيمها، دون ان تدفنها.
إنها حالة التناقض التي طالما واجهتها تلك الجهات، فهي لا تجد مناصاً من الإستفادة من الخدمات التي يقدمها لها الشكل الديمقراطي لتبرير الغزو والإحتفاظ بجلد الخروف الذي يسهل المؤامرات وخداع الشعوب، سواء في بلادها أو في الدول التي تسيطر عليها. تلك الشعوب التي تشخصها تلك الجهات بحق، باعتبارها العدو الأشد عداءاً وخطراً عليها، لذا كان عليها في كل مرة ان تجد الطرق التي تحفظ لها الشكل الديمقراطي من أجل التلفزيون، على أن يكون المحتوى يمثل أضعف وأكثر حالات الديمقراطية شللاً.
عندما تفلت الأمور، وينتخب الشعب ديمقراطية سليمة يصعب تشويهها، فإنها تعامل كما عوملت انتخابات فلسطين: إعادة التزام ودعم الجهات المهزومة ومحاصرة الديمقراطية ومنعها من أية إمكانية للحركة.
ولا يقتصر الأمر على العرب كما قد يتوهم البعض، بل يشمل هذا التأثير السيء لأميركا كل دول العالم. فقبل بضعة سنوات، كانت أميركا تخرب الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في أوكرانيا، بتنظيم شديد الكفاءة لـ "الثورة البرتقالية" لـ "يوشنكو" والتي أسقطت النظام المنتخب. وقد لعبت المنظمات الأمريكية والأموال دوراً حاسماً في تنظيم التظاهرات وسقوط الحكومة المنتخبة التي لم تعجب أميركا.
لكن لم تمض أشهر قليلة حتى أدرك الأوكرانيون بأي فخ أسقطوا أنفسهم. لكن لم يكن لديهم أي مجال سوى إنتظار الإنتخابات التالية. وفي هذه الأثناء، لعبت الحكومة الأوكرانية الجديدة، الدور الموكل إليها من الولايات المتحدة في عرقلة تدفق الغاز الروسي الذي يمر من خلال أراضيها إلى أوروبا الغربية ، خدمة للأجندة الأمريكية القاضية بوضع أكبر العراقيل الممكنة بين روسيا وأوروبا الغربية، بغض النظر عن المصالح الأوكرانية التي كانت المتضرر الأكبر من الأمر. قبل أسابيع قليلة، سقطت الحكومة المدعومة من أميركا رغم كل الدعم المستمر، وأعاد الشعب الأوكراني انتخاب نفس الحكومة التي تظاهر ضدها بعنف وحماس قبل بضعة سنوات!
(ونحن اليوم نعلم بعودة ظهور المؤامرة المستمرة التي مزقت أوكرانيا هذه المرة وفصلت عنها جزءاً أساسياً وقد تفصل أجزاء أخرى – صائب خليل ، مايس 2014)
وقبل أيام (من تاريخ كتابة المقالة ، 2010) كان هناك مؤتمر دولي لدعم حكومة مولدوفا الليبرالية الجديدة. وقصتها تكرار لقصة أوكرانيا، فقد تم إسقاط الحكومة الشيوعية المنتخبة وأجبروها على إعادة الإنتخابات لتفوز الحكومة الحالية "الليبرالية". واليوم حصلت هذه الحكومة على حوالي 3 مليارات من الدعم، وهو كم هائل بالنسبة لدولة يبلغ سكانها 3 ملايين نسمة فقط، من أجل رشوة الشعب لتغيير خياراته.
وأمس تم إعلان نتائج الإنتخابات العراقية ورفض إعادة العد، بالرغم من أنه لا يوجد في اعتقادي شخص واحد في العراق غير متأكد تماماً من ان تزويراً شاملاً للإنتخابات قد جرى لصالح إعادة علاوي إلى السلطة، وهو الرجل الذي فرضه الأمريكان في أول حكومة عراقية نصبوها بعد احتلالهم البلاد. أقول لا يوجد عراقي ليس متأكد تماماً من هذا التزوير، بالرغم من ان هناك عدد كبير من السعداء بهذا التزوير، رغم ما يعني ذلك من اخطار على بلادهم للأسف.
لم يكن هذا التزوير إلا القمة الأكثر وقاحة ووضوحاً في سلسلة من التزويرات للديمقراطية العراقية وللإرادة الشعبية. وقد سبقتها بعض أعمال التزوير الأقل صلافة، وتمثلت بإجبار الجهات الفائزة على إقامة "حكومة وحدة وطنية" لتشمل من ترغب أميركا في حقنهم في الحكومة من أجل تأمين شلل تلك الحكومة، وخاصة في المجال الأمني والقرار السياسي، فابتكروا مجلس الرئاسة المختص بوضع الفيتو على أي قرار للبرلمان أو الحكومة. ولا يشمل ذلك القرارات التي لا تناسب الولايات المتحدة فقط، بل أي قرار يسهم في تحريك البلاد وإعطاء الحكومة شكلاً فعالاً. وقد عاني العراق من سنوات تلك الحكومة المشلولة أشد العناء. كذلك تمكن الأمريكان دائماً من ان يضعوا على رأس البرلمان، "حصاناً" ما يمرر ما يريدون ويعرقل ما لا يريدون ويجعل من البرلمان مسخرة للعراقيين، فيدفعهم لعدم الثقة بديمقراطيتهم ويجعلهم أكثر استعداداً للتخلي عنها وعن الأمل بها كهيكل حقيقي تصدر من خلاله القرارات السياسية المسيرة للبلاد، وقبول شكلها الذي تريد أميركا فرضه والتعود عليه كحقيقة واقعة. فرغم كل جهود الإفساد الهائلة، بقي البرلمان، من بين السلطات الأخرى، أقرب الجهات إلى إرادة الشعب وأكثرها مقاومة لإرادة المحتل، رغم العديد من الهزائم، ولذلك كان لا بد من السعي لإفساده بشكل أكبر.
إلا ان المؤامرات لم تنجح دائماً، رغم دقة تخطيطها ورغم دعمها بإمكانات تجسسية وابتزازية وإرهابية ومالية هائلة. وحينما أتحدث هنا عن الولايات المتحدة، فإني أقصد هنا، العصابات التي ترسلها لنا الإدارة الأمريكية وجهاتها الأمنية والعسكرية، وليس الشعب الأمريكي. أقصد بهم السفير الأمريكي والقوى التي تعمل سراً تحت أمرة السي آي أي وبقية الجهات الأمنية السرية، هؤلاء الذين يضعون لأنفسهم كهدف أسمى، خلق ديمقراطية مشلولة وقبيحة وغير موثوق بها من قبل الشعب. "الولايات المتحدة" مستعجلة جداً هذه المرة في الوصول إلى نتيجة حاسمة لصالحها، ليس فقط لأن ما يجري الآن يمثل حجر الأساس للشكل السياسي للعراق لزمن طويل فقط، وإنما أيضاً لأن الحكومة القادمة ستقرر موضوع سحب القوات، وهو ما يثير الرعب في تلك الجهات على ما يبدو. ومن أجل ضرورات إعلامية وسياسية مفهومة، فقد أكدت تلك السلطات مراراً وتكراراً، بأنها لا تنوي إطلاقاً تأجيل ذلك الإنسحاب. إلا ان النوايا لا يصعب معرفتها، فتلك السلطات التي كانت مصرة على توقيع معاهدات سرية (إن أمكن) لبقاء قواتها في العراق قبل سنتين، ووصل الأمر إلى تهديدها للشعب, وقتل أحد ممثليه في ا لبرلمان، وكان من أشد معارضي الإتفاق، والإبتزاز والتضليل الذي حدث أثناء توقيع تلك المعاهدة وتمويه إسمها وتجزئتها إلى جزئين ليمكن إخفاء الجزء الأخطر، وإعطائها إسماً يزيف حقيقتها لتصويرها وكأنها اتفاقية تهدف إلى "سحب القوات" بينما كانت تهدف إلى إبقاء القوات أطول فترة ممكنة يتيحها الواقع السياسي في البلاد...الخ. كل هذا يبرهن بلا شك ان الولايات المتحدة تعتبر بقاءها في العراق مسألة حياة أو موت لمشروعها الإستعماري النفطي في البلاد.
لقد فشل ممثل الولايات المتحدة في المفاوضات، السيد هوشيار زيباري، في فرض اتفاقية طويلة الأمد على العراق، ووصل التوتر حداً حرجاً للغاية، فاكتفى الأمريكان بما يمكن ان يحصلوا عليه: تمديد بقاء لسنتين، مؤملين أنهم سوف يتمكنون من فرض الحكومة العراقية التي سيتم معها التفاوض حول مسألة الإنسحاب عندما يحين موعدها.
ومن الواضح ان الأمريكان ليسوا سعداء جداً برئيس الوزراء الحالي، نوري المالكي، رغم أنه قدم لهم للأسف الكثير من التنازلات ودعم موقفهم في نهاية الأمر في توقيع الإتفاقية. لكنهم على ما يبدو قرأوا ان الرجل لن يمدد لهم الإتفاقية، رغم أنه قال أنه سيفعل ان كان الوضع الأمني يتطلب ذلك، وهو تصريح أحمق لا يمثل سوى دعوة للإرهاب الأمريكي أن يزيد نشاطه.
لذلك كله صارت السفارة تتصرف بهستيرية غير معتادة في محاولة السيطرة على السلطة في البلاد. محاولاتها الأولى كانت من خلال محاولات الإتفاق المباشر مع بقايا حزب البعث، وأجرت معهم أتصالات ومفاوضات عديدة كان البعض منها علنياً، وكان الأكثر افتضاحاً منها ما جرى في اسطنبول. وحين اعترض المالكي واحتج بأن هذا الموقف غير سليم وتدخل في شؤون البلاد، وتوسل قائلاً ان الأمريكان يجب ان لا يتعاملوا مع من تلطخت يده بدم جنودهم، قالوا له بصراحة، بأنهم مسؤولون، وتحت بنود الإتفاقية التي وقعها، عن الأمن في العراق وعن إنجاح العملية السياسية!!
لكن المالكي، والذي كان قد أصدر تصريحات أرعبت ناخبيه والشعب العراقي عموماً حول التصالح مع البعث، عاد يرفض إشراك البعث في السلطة بقوة وشدة، بعد ان لمس ردود فعل الشارع العراقي على ذلك. السفارة الأمريكية أيضاً، لمست صعوبة تمرير محاولتها من هذه النقطة، فتراجعت بشكل مثير للسخرية، ليس عن مشروعها فقط، بل أدعت أنها لا تريد عودة البعث وأنها تعتبرهم إرهابيين ، الخ. وكررت تلك المواقف كثيراً في الإعلام، لغسل الصورة التي أخذت عن موقف أميركا لدى الشعب العراقي.
إنتظرت الإدارة الأمريكية فرصة أفضل لإختراق الحكومة وفرض البعث عليها. وقامت بهجومها الثاني في محاولة فرض صالح المطلك وجماعته رغم وجود نص دستوري يمنع ذلك، ورغم ادعاء الإدارة الأمريكية والسفارة أنها لا ترغب في عودة البعث. والقت السفارة بثقلها في تلك المحاولة بشكل غير معهود. وحين لم تجد طريقة لفرض قبول عملائها من بقايا البعث والصداميين الذين وجدوا فيها سيداً جديداً، وفشلت في فرض إصدار قرار بالسماح لهم بالمشاركة لشدة وضوح التهم الموجهة لهم، ولشدة صراحة نص الدستور، ولشدة التوتر الشعبي المضاد لمثل هذه الحركة، اجتمعت السفارة وأبتزت اللجنة القضائية لهيئة المساءلة وأجبرتها على عدم اتخاذ قرار بمنع صالح المطلك ورفاقه من المشاركة في الإنتخابات.
لكن المالكي وحكومته وقفا لأول مرة في التاريخ بشكل علني وواضح بالضد من الإرادة الأمريكية لأنها كانت تقف تماماً بالضد من مصالحهم، ولعبت هيئة المساءلة أيضاً دوراً حاسماً في إصراراها على موقفها، وهو ما لم تعهده الولايات المتحدة في أية جهة عراقية في الماضي. إستطاعت هذه الجهات العراقية ان تفرض تطبيق الدستور، وتراجعت الهيئة القضائية عما تحججت به سابقاً من "صعوبات" وضيق وقت في إصدار القرارات، وتبين ان تلك القرارات لم تكن "مستحيلة" كما تم تصويرها بضغط الأمريكان.
في هذه الأثناء، فضح الأمريكان خططهم وفضح الهاشمي نفسه حين قام بزيارة للولايات المتحدة قابل فيها عدد كبير من المسؤولين الكبار، بينهم أوباما وكلنتون، وحين عاد سارع بالتصريح، وبدون مناسبة، بأنه من الضروري إعادة النظر بموضوع الإنسحاب الأمريكي العسكري وموعده!! ان إفلات مثل هذه التصريحات المتسرعة يجب أن تعتبر نعمة للشعوب يمكن أن تستنتج من خلالها ما يحاك لها في الظلام!
لكن مرة أخرى يفشل الأمريكان ويضطرون إلى انتظار فرصة أخرى لفرض البعث وعلاوي. وكانت الإنتخابات، وربما أعتبرها الأمريكان الفرصة الأخيرة، فالقوا ثانية بثقلهم الإعلامي والتقني والتجسسي والمالي وكل عملائهم من الدول العربية في سبيل إنجاح فريقهم الإنتخابي. ولم يكتف هؤلاء بإرسال فرق من ألاف خبراء الأنتخابات تعمل لحساب الجهات المحسوبة عليهم بلا مقابل، أحدهم كان مدير حملة أوباما نفسه، لم يكتفوا بذلك، ولا بكل التركيز الإعلامي لوسائل الإعلام العراقية والعربية التي تحت تصرفهم، بل قام أياد علاوي بزيارة سريعة للملكة العربية السعودية وتفاوض من بين من تفاوض معهم وتفاهم، مع المخابرات السعودية – وكر التآمر الأمريكي الأكبر في البلاد العربية.
وفي هذه الأثناء كان الجهاز السري للولايات المتحدة يعد العدة مع مفوضية الإنتخابات وممثل الأمم المتحدة، وكلاهما عمل كموظفين لدى السفارة الأمريكية وبشكل يثير تقزز أي أنسان له بعض احترام لنفسه. وكانت الإستعدادات تجري لتزوير الإنتخابات بأشكال متعددة، ومراحل مختلفة، فالمحاولة يجب ان لاتفشل هذه المرة وبأي ثمن. تم شراء عدد هائل من البطاقات الإحتياطية، بلغ 7 ملاييين بطاقة، إضافة إلى طبع عدد كامل من لهم حق الإقتراع، أي بتوقع ان يتم الإنتخاب بنسبة 100%، إضافة إلى تلك البطاقات الإحتياطية التي تبلغ 35% من عدد الناخبين والمخالفة للمقاييس الدولية التي تشترط ان لايزيد ذلك عن 10%. أي ان نسبة البطاقات المطبوعة كانت تساوي 135% من عدد الناخبين الكلي. وإن حسبنا ان نسبة المشاركة كانت أقل من 65% (إن صدقنا كل الأرقام) فأن عدد البطاقات المتوفرة للمفوضية كان أكثر من ضعف عدد المشاركين في الإنتخابات!
ثم بدأت الإنتخابات، ومارست الكتل الكبرى كلها، كل ما أوتيت من قدرة على تحصيل أكبر عدد ممكن من الأصوات، سواء بطرق شرعية أو غير شرعية. إفتضحت رشاوي قدمت للمواطنين من جهات مختلفة، ووصلني ان طائرات سمتية كانت تلقي بمنشورات تهديدية للناس ان لا تنتخب "العراقية" أو "التيار الصدري"، وهو ما أشار إليه أياد علاوي محتجاً. ومنع ممثلوا الكيانات الصغيرة من دخول المراكز الإنتخابية كما أشار الحزب الشيوعي العراقي "قائمة اتحاد الشعب" في الوقت الذي كان فيه ممثلوا الكيانات الكبيرة يسرحون ويمرحون في تلك المراكز. وهدد ممثلوا الكيانات الصغيرة واضطروا إلى الهرب من بعض المراكز لتنهب أصواتهم. لم يكن هناك الكثير من الشرفاء في هذه الإنتخابات للأسف، بل يمكننا القول أنهم كانوا نادرين!
لكن الضربة الأكثر قذارة كانت تنتظر الجمهور العراقي لدى المفوضية وأثناء عدها للأصوات. بدأ الأمر بهجوم إعلامي ترهيبي من جانب القائمة العراقية متمثلاً بأياد علاوي والنجيفي وبقية الشلة. وصاروا يهددون ويتوعدون في حالة تزوير الإنتخابات، مما دفع بالجهات الأخرى ان تؤكد ان الإنتخابات جرت وأن العد يجري بشكل سليم ومضمون، وهو ما كان يهدف إليه أعضاء العراقية المتظاهرون بالغضب من التزوير ضدهم للتغطية على تزويراتهم. وفي هذه الأثناء كانت المفوضية بالتعاون مع فريق من الأمم المتحدة، وباستخدام شركة ترتبط بأشخاص ذوي علاقة بمنظمة مجاهدي خلق يدخلون النتائج إلى حاسبات لا يدري أحد سوى الله و"الراسخين في العلم " ما يدور في داخلها، ولا يعلم أحد أي برنامج يسيرها. واستمر العد، وإذا بالمفوضية الشبوهة تكرر فضيحتها السابقة وتمتد عملية العد طويلا طويلاً، كما لا تمتد أية انتخابات أخرى في العالم. ويتم إعلان النتائج الجزئية بين فترة وأخرى، وفي هذه الأثناء كانت أجهزة التجسس تجس النبض العراقي في الشارع ولدى الأحزاب لتحاول ان تحسب الدرجة الأمثل الممكنة في التزوير دون إثارة فضيحة ورد فعل، وانتظار الإعلان عنه إلى التوقيت المناسب للمواجهة النهائية.
في هذه الأثناء أثرنا الإنتباه إلى خطورة استخدام الحاسبات في العد، وكنا قد فعلنا ذلك سابقاً في مرات عديدة، لكن تزامن تلك المقالة هذه المرة، مع قلق كتل كبيرة من التزوير، كان له الأثر في جعل تلك المقالة تنتشر بشكل كبير، وتثير الوعي لتلك المشكلة. وبالفعل جاءت ردود الفعل رائعة تطالب بالتحقيق والعد اليدوي، وأسهم في نشر الوعي بهذا الخطر، من أصدقاء لنا لهم التقدير منا.
أحد هؤلاء الأصدقاء خاطر مخاطرة كبيرة بأن أوصل لنا معلومات عن الشركة المالكة للحاسبات التي استخدمتها المفوضية، وعن ارتباطها بمنظمة مجاهدي خلق. كذلك بينت تلك المصادر ان الشركة تستخدم الأقمار الصناعية لتوصيل مراكز المفوضية ببعضها، وهو ما يعني ان جميع المعلومات يمكن التجسس عليها، بل وأيضاً تغييرها من بعيد بواسطة الإشارات اللاسلكية. وأثارت تلك المعلومات ضجة كبيرة، وسارعت جهات أخرى بكشف معلومات إضافية وبأن هذه الشركة تجهز مؤسسات خطيرة مثل وزارة الدفاع، بأجهزة الحاسبات والإتصالات.
موقع شركة “ناشطة” سارع إلى إنكار علاقتها بتزوير الأصوات، وأنكر دقة بعض المعلومات معترفاً بجزء منها، وأنكر علاقتها بأي حزب سياسي. وقد وصلتني المزيد من المعلومات عن الشركة سوف أنشرها في مقالة مستقلة (أنظر المقالات التالية في الكتاب: "شركة حاسبات واتصالات مفوضية الإنتخابات مملوكة لمنظمة مجاهدي خلق وتدار من معسكر أشرف!" ، "معلومات جديدة هامة عن شركة حاسبات المفوضية، “ناشطة”، "شركة “ناشطة” تتهم صائب خليل بالتجاوز وتهدد بالملاحقة وصائب يرد".)
الشكوك التي أثارتها ظروف العد وتصريحات وتصرفات المفوضية، ارتفعت إلى حد مقلق، مما حدى بكتلة "دولة القانون"، إحدى أكبر الكتل الإنتخابية، ان لم تكن أكبرها، إلى المطالبة بإعادة العد يدوياً، وهو مطلب اعتيادي طبيعي لا يمكن رفضه. وقدمت الكتلة أسبابها الموثقة، فرد فرج الحيدري رئيس المفوضية المستقلة للإتخابات، ان إعادة العد أمر مستحيل!! ولعله أول رئيس جهة مسؤولة عن إنتخابات يجروء على التصريح بمثل هذا التصريح العجيب!
هذا "المستحيل" الغريب، يذكرنا بـ "المستحيل" الغريب الآخر الذي تعذرت به اللجنة القضائية الخاصة بهيئة المسائلة والعدالة، عندما قالت بعد إجتماعات مع موظفي السفارة الأمريكية بأنه "يستحيل" إنجاز كل تلك القضايا ضمن الوقت المتبقي، وبالتالي امتنعت أول الأمر عن إصدار قرار، مثالما أمتنع فرج الحيدري عن إعادة العد! فكل ما يقف بوجه الأجندة الأمريكية "مستحيل"، مهما كان بسيطاً واعتيادياً!
إزداد قلق الناس، وإزداد الإصرار على طلب إعادة العد. طالب بأن تقدم الجهات الطالبة للعد "ببراهين دامغة" على التزوير، وهو طلب غريب آخر، ففي العادة لا تحتاج إلا إلى أدلة تثير الشكوك لكي تقوم بإعادة العد، والذي ينتظر منه هو ان يقدم "البراهين الدامغة" في النهاية، ولو كانت هناك "براهين دامغة" مسبقاً فلا حاجة لإعادة العد، بل يجب محاكمة المفوضية عليها مباشرة. ومع ذلك، فالمزورين لم يحسنوا عملهم، فوفروا للمعترضين "أدلة دامغة" بالفعل. وقدم هؤلاء أدلتهم، ولكن دون جدوى. إحتج الحيدري : "كيف لا تثقون بالحاسبة، وهي حيادية؟" وفي هذه اللحظة لم يعد لدي أي شك في ان الرجل كذاب يخفي غشاً كبيراً ويعمل جاهلاً على تجنب فضحه بأي ثمن.
طالب الحيدري بأن يكون العد محدوداً، فاستجاب المعارضون وطلبوا إعادة العد في مراكز معينة في بغداد وديالى....وفجأة يحسم فرج الحيدري الموضوع، ويقرر ان يعلن النتائج في اليوم التالي، وبالفعل أعلن النتائج التي وضعت القائمة المفضلة أمريكيا، على الموقع الأول، وبدون إعادة عد!!
في هذه الأثناء امتلأ الإعلام العراقي بأخبار "عن مصادر مجهولة" تنسب إلى رئيس الوزراء تصريحات لم يقلها، وتثير الإحساس بأن الرجل يريد ان يقوم بانقلاب عسكري ان لم يكن الفائز في الإنتخابات. وساندت وسائل الإعلام الأمريكية بعض تلك الإدعاءات، ولكن بعبارات لا تحملها مسؤولية محددة. وصار إعلام الخارج ينقل عن الداخل وبالعكس، تلك الأخبار، ليوحي بأن لها مصداقية إضافية. وهذه الطريقة معروفة لدى متابعي إعلام الـ سي آي أي، وكثرما استعملت لبث الأكاذيب وإسقاط الحكومات غير المناسبة، خاصة في أميركا الجنوبية وأوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وكما يشرح "وليم بلوم" ذلك بتفصيل في كتابه الرائع "قتل الأمل".
بدا ان المؤامرة تضيق الخناق على الشعب العراقي لفرض الحكومة التي سترضى بتمديد المعاهدة أو توقع جديدة أسوأ منها. وبدا ان أجهزة الشعب الديمقراطية قد أصابها الشلل: ليس هناك على ما يبدو طريقة لإلزام عملية إعادة العد، ليس هناك طريقة للإعتراض الفعال، مهما قدمت من دلائل. وسائل الإعلام تعمل بنشاط على تثبيت النتيجة المعترض عليها وفرض الأمر الواقع!
لكن الأمر لم ينته بعد. فما زال المفضل الأمريكي أياد علاوي يواجه ثلاث إشكالات على الأقل, وهي ان يكسب معركة الطعن التي قدمها المالكي بالنتائج، وثانياً مشكلة التفسير الذي قدمته المحكمة العليا قبل ظهرو النتائج، لتفسير عبارة "الكتلة الأكثر عدداً" بأنها تعني الكتلة الأكبر التي تنتج بعد تصفية التحالفات بعد الإنتخابات، والمشكلة الثالثة هي مشكلة جنسية والدته الأجنبية، والنص الدستوري الصريح الذي يمنع أياد من تسنم منصب رئاسة الحكومة أو الدولة.
بالنسبة للنقطة الأولى، لا أحد يعلم حتى هذه اللحظة ان كانت الهيئة القضائية في المفوضية لم يتم رشوتها هي الأخرى، واحتمال بقائها نظيفة قد يكون تفاؤل ضعيف القوة. كما ان أياد سيحاول بلا شك ، إن بقيت هذه المشكلة لوحدها، ان يزور أوراقاً ستقول بأن أمه تجنست عراقية، وقد بدأت المحاولات الإعلامية تهيئ الناس لقبول مثل هذا التزوير فعلاً. ويبقى ان ينجح المالكي في تكوين التحالف اللازم ليكون الأكبر. ويحتاج المالكي إلى 163 صوتاً لذلك. ويملك هو و الإئتلاف الوطني 159 صوتاً، مما يعني أنه سيحتاج أربعة أصوات إضافية فقط. لذلك فأن موقف الإئتلاف حاسم في الموضوع.
المؤشرات الأولى للإتفاق مع الإتئلاف متضاربة، فمكونات الإئتلاف بدأت تثير الإشكالات والتاريخ القديم للمالكي معها. وهي محقة تماماً فيما تقول، فالمالكي لم يكن أبداً شريكاً أميناً، على الأقل بالنسبة للتيار الصدري. كما ان علاقته بالمجلس الأعلى لم تكن ممتازة.
إلا ان الموقف الشديد الحرج والخطورة يفترض ان على جميع الجهات ان تعمل على إفشال هذا التزوير الأمريكي الخطر للإنتخابات، فإن تم تمرير المؤامرة، فلن يكون هناك أي أمل في أية ديمقراطية فيما بعد. الجميع سيعتبر نفسه بعد ذلك مخولاً بأي تزوير يتمكن من القيام به، والشعب نفسه لن يعتبر التزوير جريمة بعد ذلك. كذلك فأن الإحساس بالظلم سيثير الكثير من المشاكل والعنف وبنتائج لا يعلمها إلا الله.
لقد رفع مؤيدوا العراقية لحظة إعلان فوزها أعلاماً عراقية قديمة، أو ما يسمى بأعلام البعث، ويمكنكم ان تتصوروا ما يمكن ان يعني ذلك بالنسبة للجهات الأخرى. إنه تهديد بمواجهة دموية كبيرة لا يمكن التكهن بحدودها، حتى ان التزمت الكتل بالقانون ورضيت بالنتيجة.
لذلك أدعو الجميع إلى نسيان إشكالاتهم، وهم محقين بها تماماً، وكثيراً ما كتبت أنا عن تلك المظالم، إلا ان الإحتلال تمكن من توجيه تلك الإشكالات لكي تخدم خياره لمستقبل العراق، فلا تدعوا المؤامرة تمر!
دعوتي أيضاً تتوجه إلى مكونات العراقية، وناخبيها، فالغضب المبرر تماماً والإساءات التي قامت بها الحكومة تفسر وتبرر وتشرعن هذا الغضب والرغبة في الإنتقام، وأنا أيضاً كتبت كثيراً عن ذلك ووجهت اللوم والإتهامات الكثيرة لحكومة المالكي في مقالات سابقة حول قضايا كثيرة وكبيرة الأهمية. لكن لا مفر من الوعي بأن هذا الغضب الشرعي جرى توجيهه نحو خيار أمريكي لا علاقة له بأسباب الغضب, ولا يهمه هذا الغضب، بل يهدف إلى مؤامرة أمريكية خطيرة للغاية على البلاد.
ولا أستثني من دعوتي إلى تجاوز المؤامرة، الجهات الكردية المختلفة، رغم انشغاليها الشديد بمحاولة الإستفادة من الظرف الحرج لتحقيق مكاسبها القومية. إلا ان تدمير العراق بهذا الشكل لن يكون فيه كاسبون، وأملي ان يتم التوازن بين تلك المكاسب الممكنة وبين درء الخطر عن العراق، وسيحسب التاريخ لكل موقفه في اللحظات الحاسمة، وقد تكون هذه أشدها وآخرها لهذه المرحلة!