بغض النظر عن المواقف المتباينة من حكم نوري السعيد للعراق ، إلا انه لايمكن نكران دوره مع الملك فيصل الاول في بناء الدولة العراقية كمؤسسات ونظام حكم وتشريعات ومشاريع ، وكثير ماكتب عن فترات حكمه سلباً وايجاباً ، لكنه لم يختلف احد عن مساهماته أو بالاحرى فاعليته في تنظيم العلاقة بين مؤسسات الدولة وصيانة خطوط عملها وتوظيف موارد النفط المحدودة في تلك المرحلة في خدمة المشاريع التربوية والاروائية والسدود والجيش والبنيوية التحتية والقليل من المشاريع الانتاجية .
كتاب السفير الامريكي فالديمار غالمان في العراق من 1954/ 1958 ، دراسة وتقديم وتحقيق الدكتور سيارالجميل ، يكشف لنا الكثير من الحقائق والمواقف والسياسات والتوجهات والمشاريع لهذا السياسي العراقي العريق ماقبل الحرب العالمية الاولى ومابعدها ، واسهاماته السياسية والعسكرية مع الشريف حسين والملك فيصل الاول في سوريا والعراق وكفاحهما العربي ضد هيمنة الامبراطورية العثمانية على المنطقة العربية ومن اجل وحدة الامة العربية.
ليست مهمتنا في هذا الموضوع استعراض ماجاء في الكتاب بشأن تاريخ ومواقف وشخصية الباشا ، وإنما نريد تناول ماجاء في حديث للسعيد حول موقف الحاكم من الدولة ، وامكانية استعراض جزء من موقف حكامنا اليوم ورؤيتهم للدولة وتغليبهم مصالحهم الشخصية والحزبية والكتلوية على حساب مصالح الدولة والناس ، ومايعيشه العراق اليوم من تراجع في كافة المواقع ، بدءاً من شخصية الدولة بين الدول وصولاً الى الانهيارات في العلاقات المجتمعية والخدمية والاقتصادية والامنية يعكس التناقض بين المفهومين لمرحلتين وقرنين من الزمن الذي يفترض أن يكون القرن الحادي والعشرين هو مقياسا لتطور العقول والبلدان والمجتمعات والسياسات والاقتصاديات ومسالك العلوم التربوية وغيرهما من الجوانب الحياتية والبنى التحتية والمدن وكل مايتصل بالانسان .
فعلينا أن نتأمل موقف نوري السعيد بشأن نظريته كمسؤول في الدولة وذلك في خطبة له في شهر كانون الاول عام 1956 وما يحدث الآن ، حيث قال ( يحق لرجل الدولة الأمين أن يغامر بحياته ومركزه وبكل مايملك إذا اراد ذلك .. ولكن لايجور له قط ان يجازف بمقدرات او كيان الامة التي يرعاها ) .
نؤكد القول بانه بغض النظر عن وجهات النظر المتباينة حيناً والمتناقضة احياناً اخرى إلا إن الباشا بنى مؤسسات الدولة ووظف الموارد رغم قلتها في خدمة العراق ، وما يحصل الان نجد الكيانات والاطراف والتكتلات التي تقود العراق منذ الاجتياح الامريكي البريطاني للعراق عام 2003 ومن كل الكيانات ، نجدها قد وظفت موارد العراق لمصالحها الذاتية وعملت على تهديم الدولة ككيان حافظ قانونياً وتشريعياً لمصالح الوطن والمجتمع .
لقد تحولت الدولة وقوانينها ومؤسساتها التي تم بناؤها منذ عام 1921حجراً حجرا الى هيكلية فارغة من محتواها واصبحت الاحزاب والكيانات والكتل الحاكمة اقوى من الدولة ، والمواطن يلوذ بتلك الكيانات ومليشياتها إذا ما اراد الحصول على حق مغتصب ، وصارت العشائر هي الجهة التي يرجع اليها للفصل بين النزاعات وليس القانون والقضاء ، وكثيراً ماتشاهد على جدران البيوت والمحال التجارية شعار العشيرة ( مطلوب عشائرياً ) اي إن رأس المسكين وعائلته وماله مرهون بكلمة واحدة من فاشل بين اقرانه ومن رعديد لايحترم ولايعرف معنى الحقوق والقوانين ، وفي هذا العهد مع الاسف الشديد الذي يعرف ( بالديمقراطي ) اصبح المال العام وموارد البلاد رهينة المافيات والسراق وازلام الكيانات الحاكمة وتتفنن هذه الاطراف في غسل الاموال وتهريبها ، واصبح العراق كدولة هامشية بين دول العالم ، فيما كانت في ذلك الزمان محورية لها تاثيرها العربي والاقليمي ، والباشا ذاته الذي طرح فكرة قيام كونفدرالية بين الكيانات العربية وتحول بعد ذلك الى جامعة الدول العربية . إذن إذا اردنا أن نقيس بين ذلك العهد وهذا العهد ففي الماضي كان الحكام مع مليكهم يسعون لبناء دولة ، فيما اليوم الدولة موزعة بين اقطاعيات الكتل والكيانات الحاكمة ، وان التغيير يواجه مصدات عنيفة ، لايمكن أن تزاح تلك المصدات إلا بثورة شعبية برلمانية ثقافية شاملة .
مقالات اخرى للكاتب