ربع ساعة انتظار في قلب الظلام والحر، تساوي أكثر من ساعة أو سنة. انقطعت الكهرباء العامة، وصاحب المولدة لم يُشغِّل. أواسط آب خرجتُ، علمت أنَّ المولدة عاطلة. جلستُ على عتبة بابي، جاري أبو مسعود يُدخِّن سيجارة، سألتُ نفسي:
– لماذا لا ينام أبو مسعود؟ لديه مولدة خاصة تكفي المحلة كلها.
جاء أبو مسعود وجلس بجواري. أشارَ للحارس أنْ يعود إلى غرفته الصغيرة أمام باب البيت. كان في الشيوعي رفيقاً ثمَّ في البعث عضو فرقة، واليوم من وجهاء الدعوة إلى الحزب الحاكم. قد يسرُّكَ منظره، يلقاكَ بابتسامة عريضة لا تفارق وجهه، لا تتعجل، قريباً سيَسُوْءكَ مخبره، فهو خفيفٌ في وطأتهِ، قاتِلٌ في لدغته. بادرته قبل أنْ يجرجرني إلى السياسة:
– كم سيستمر هذا الظلام؟
– آب اللهَّاب أحرق مجلس النوَّاب.
– الظلام في داخلي يعذبني. والحرُّ وهذه الرطوبة تخنقني.
– تمَّ اغتيال صفوك وطبان العاكوب.
– طنين البعوض في أذني، لسعاته في يدي.
– قرب بيت خاله المحافظ، بعد يومين من تصريحاته يوم الخميس عن المشاكل التي ستواجه إدارته، وأهمها الأطفال مجهولي النَّسب.
– حتى الظلام في الغرب أجمل!
– عثروا عليه في سيارته مع رصاصتين في رأسهِ.
– وا حسرتاه! متى أنام؟ غداً ينتظرني المدير أمام الباب كوحشٍ مجنون بعينٍ واحدة!
– ربما كان انتحاراً!
– لا يهمني الحرُّ الخانق، ولا أشعرُ بالبعوض، معدتي بدأت تحرقني.
– ربما كانت قرحة ندم الأبِ، أعرفها أنا الذي عاشَ وحشاً في حياةٍ طفولية أنانية. أبنائي يعاملونني ككلبٍ أجرب، ابنتي الكبرى نداء، لا تطيق رؤيتي، حالما تراني تصرخ، والصغرى تشتمني والأمُّ تسخر مني. أعطيتُهم كلَّ شيء، لم أخفِ عنهم شيئاً، صاروا يأخذون دون علمي.
– البعوضة تدركُ تماماً، بأنَّها وحشٌ مفترس، لكنَّها على كلِّ حال لا تمتص أكثر من طاقة معدتها، لا تمتص شيئاً من دمي لتودعه بنكاً.
– لماذا ينتحر شابٌ في مقتبل العمر؟ لا شيءَ برأيي يبرِّر عبثية العنف.
– العنف في هذا الجيل، سببه اليأس من مستقبلٍ أفضل. قال نائب رئيس الوزراء سنصدِّر الكهرباء عام 2013 لأنَّ الكهرباء ليست كالنفط، لا يمكن تخزين الفائض منها! ومرت ثلاث سنوات والكهرباء أسوأ، والأمنُ أسوأ، وكلُّ شيءٍ أسوأ.
– يحزنني جحود أبنائي، رغم حرصي واهتمامي بهم. لا ينقصهم شيء، لم أبخل عليهم بشيء، أغلى السيارات والثياب والاكسسوارات. كل شهر سفرة إلى أوربا أو دبي، رغم كلِّ هذا يكرهونني.
– أعظمُ نعمةٍ من الله تعالى، الخُلق الحَسَن. ليس ثمَّة سعادة تعدل سعادتي، حين أسمع الثناء الحسن على أولادي من الجيران والأقرباء.
– ليس ثمَّة جحيم كالجحيم الذي أعيشهُ، ابني يضربني، ابنتي تشتمني، وربما الناس يشتمونني أيضاً حين يرون سلوكيات أبنائي.
قلتُ في نفسي: طالما حسدتُ أبا مسعود، لكنه ويا للشَماتة! يعيش تعيساً في قلب الظلام! وأقول لكم: ابتعدوا عن المسؤولين، فإنَّ أحدهم إذا قدَّم لك هدية أو خدمة، سيسلبُ قلبك أو مالك إذا كنتَ ثريَّاً، أو يستخدم جاهَك وعلاقاتك، أو يُسقِطُ سُمعتكَ بنسبتكَ إليه، وسرعان ما ستجد نفسك تسير وراءه كالخروف الضَّال يلاحق ذئباً! سَأرحل إلى مدينةٍ أخرى، لا أحدَ يعرفني فيها لا أحد. سأعثرُ على أصدقاء جُدد، سأعيشُ حياةً أخرى. لا شيء غير الرحيل سيبهج قلبي المحزون. في هذه المدينة خذلتني الشوارع، خذلني الأصدقاء، خذلتني الحدائق العامة التي صارت قصوراً للفاسدين. هنا ضاعت حياتي كلها، لم يبقَ غير القليل يجب أنْ أرحلَ وراء قلبي الذي يتطلَّعُ إلى الحياة في أمكنةٍ أخرى. سأرحل وأتمنى أنْ تكون الرحلة طويلة، سأرحلُ جذلاناً بعيداً عن كلِّ رفيق يختبئ وراء ذكرياتي السيئة.
مقالات اخرى للكاتب