ما يحصل في اقليم كردستان امر طبيعي ومتوقع تماما ، وهو ذات ما حصل في الماضي و يحصل، اليوم ، في العراق ، وما حصل ويحصل في دول المنطقة ، وبقاع اخرى ، كثيرة ، في العالم .فهناك الاب المخلص ، الراعي الصالح ، القائد الذي عرفته وعركته سوح النضال من اجل القضية والشعب سواء كان فردا او عائلة او حزبا او كل ذلك معا ، من جهة ، وهناك العائلة الاكبر وقد تطلع شبابها ، بحكم منطق الحياة نفسه ، الى ما وراء الافق المحكم والنظرة الصارمة للأب الحنون ، الذي يعرف ، مصلحة العائلة، بالطبع ، اكثر من اي فرد فيها ويحذر عليهم من المخاوف التي تحيق بهم والنفوس "الامارة بالسؤ" التي توسوس لهم بالمجهول وتدعوهم الى خير لا يعرفونه ، وهو دائما ، محذور ومحظور بالنسبة لروح شرقية اعتمدت ، باستمرار ، الاطمئنان الى ماهو معتاد وسمته "معروفا" وتطيرت بل وارتعبت من كل تجديد وسمته " منكرا " ، وصاغته في قاعدة ذهبية تقول نسختها العراقية: " شين اللي تعرفه احسن من الزين اللي ما تعرفه "! ...
هناك ، دائما ، الراعي الصالح ،الامين، المهموم بمصلحة القطيع والذي يوصل الليل بالنهار من اجل ان يوفر لغنيماته الماء والكلأ ولا يطلب منها الاّ الاذعان والانقياد والتسليم ، من جهة ، تقابله، روح التمّرد وقد دبت في القطيع ووساوس الشيطان وقد الهبت خيالات افراده ! اذن ، مرة اخرى ، نجد انفسنا ، باختصار شديد ، امام القضية نفسها، الشعب الخائن او المندفع الذي لايقدر عاقبة الامور ، على اقل قول ، والقائد المخلص الذي يرى ما لاتراه الجموع ! انها مأساة الجحود الانساني ، فالشعوب لم تعد تجزي قادتها المخلصين بما يستحقون . فقد تخلى الرومانيون عن شاوشيسكو بل وتنكروا له وطاردوه حتى انتهوا الى قتله شر قتله متناسين ما " بناه " لهم واشاده من اجلهم !ّ وترك العراقيون صدام حسين في مواجهة الامريكان وطارد الليبيون معمر القذافي وتنكر المصريون لمبارك ... لكن ثمة مفارقة : فالشعب نفسه الذي كان يوصف من قبل القائد ، الزعيم ، الاب الصالح ، بانه شعب مخلص وصبور وعريق وعظيم يستحق التضحية بالنفس والمال والولد غداة مؤازرته للزعيم او قبوله به او صبره عليه على الاقل ، يتحّول ، يوم يقول بشأنه كلمة اخرى ، الى " زمرة متآمرين " يغامرون بمصير الشعب ويتهددون وحدته او " مجموعات عملاء " تحركهم خيوط واجندات عدّوة من الخارج او سياسيين طموحين لا تهمهم سوى مصالحهم ، وفقا لافضل وصف!
بالنسبة لصدام كان المعارضون ... كل المعارضين ، وباية درجة من المعارضة ، بل وحتى من ينبسون ، من اركان النظام نفسه ،ببضع مطالبات بسيطة ،وعلى استحياء ، بغية تجميل وجه النظام واضفاء مسحة من المعقولية على طغيان فردي منفلت ، كانوا .... سليلي خيانه من اعالي الجبال او راضعي غدر ممن استوطنوا السهول او عملاء او جواسيس لامريكا مرة وروسيا اخرى وايران ثالثة والسعودية رابعة وموزمبيق خامسة، وكانوا يسلمّون ، جميعا ، ومهما كان مسحوق الهمس الذي ينبسون به ، بيد العزيز عزرائيل حتى وهم يهتفون " بالروح ... بالدم ....". لم يشأ صدام ان يتوقف ، ولا مرّة واحدة ، لكي يراجع نفسه او يجد ولو النزر الضئيل والضئيل جدا مما يدعّيه خصومه من اسباب او دوافع غير ما كان يراه، هو ، من اسباب " المؤامرة " ودوافع " العمالة !
ولم يكن الحال مع القذافي ، وقد تحول الى عقل يعّلم العالم الحكمة و اسطورة لا تقهرمن القّوة والجبروت، باحسن من ذلك ، حتى انه كاد ان يفقد النطق وهو يرى ان " الجرذان " قد تجرأوا عليه وعلى نظامه في بنغازي ونسوا خوفهم الذي ولدوا في لجته و تشربوه على مدى ما يقرب من اربعين عاما . كذلك كان شأن ابن علي في تونس ومبارك في مصر وغيرهم .
حسن، لماذا يتكرر هذا الامر منذ عقود طويلة ، دون ان يظهر ان ثمة من تعلّم الدرس او تفهّم الموعظة؟ لماذا يصّر الحكام على ان يكون حكمهم مؤبدا؟ ولماذا يفترضون في انفسهم الكمال وفي شعوبهم الجهل والحماقة ؟ في انفسهم الاخلاص والامانه وفي غيرهم الخيانه ؟ لماذا يتصورون ان البلدان والشعوب من بعدهم ستضيع ومن دونهم ستنتهي ؟لماذا يبدأون ، في معظم الحالات ، متحمسين ، حالمين ، متجاوبين ليكفوا ، تدريجيا عن اي مظهر من مظاهر الحسّ والحياة ولينتهوا الى فراعنة متحجرين ؟!
يكمن الامر في الاستمرار في السلطة حتى تصبح حقا طبيعيا وميزة شخصية. وفي خروجها ، تدريجيا ، عن كل قيد وتوسعها الى مدّيات تسد آفاق المجتمع وتربط نبضه ووجوده الى نبض ووجود الحاكم او الزعيم (ولذلك اسسه التاريخية التي تعيد انتاجه ، بالطبع ، وتحتاج الى وعي عميق وحس بالمسؤولة وارادة جبارة ونكران ذات جقيقي لتعديل المسار بتغيير الشروط التاريخية ). وفي تنامي عائلة الحاكم ومشاركتها في شؤون الحكم ، فالاطفال ما عادوا اطفالا ابرياء يرى فيهم الحاكم جزءا من مستقبل شعبه بل رجالا من نسله ، نسخا اخرى منه ، يسندونه ويعززون وجوده وسيطرته ويمثلون استمراره مستقبلا ويصبح امر ضمان السلالة وامتيازاتها وحكمها اولوية مهمة فيرث الاولاد بعض سلطات الاب حيّا ، وغالبا ما يمتد وجودهم المباشر وسيطرتهم الشخصية ويتركز في قيادة الحزب الحاكم ( الذي يتحول تدريجيا ، الى اداة بيد الحاكم تعكس الولاء الشخصي والانقياد غير المشروط )و اجهزة القوة ومراكز السيطرة والتحكم بل وقد يمتد الى اجهزة الاعلام وهيئات الرياضة والشباب!. لكن الشباب غالبا ما يفتقدون الى حكمة الشيوخ ، فالاولاد هم الاولاد ،طبعا ، وسرعان ما تسيطر عليهم شهواتهم بدفع وتشجيع من سلطة شبه مطلقة في ايديهم فيندفعون باغراء وحث من المستفيدين ، داخليا وخارجيا ، الى نوادي القمار وشبكات اللذة والرقيق الابيض ومظاهر البذخ الخيالية من سيارات خاصة وطائرات شخصية ويخوت وقصور في اوروبا ومحاكاة لكل مظاهر الحياة الارستقراطية وطبائع السلطنه ،وهذا كله يزيد من اندفاعهم وتكالبهم نحو جمع المال فينغمرون في علاقات شراكة مع حيتان مال وفساد محلية واقليمية وعالمية تدفع بهم وتشدّهم الى عجلة لا تتوقف من الاستحواذ على المال العام ورعاية الفساد وحيتان الفساد الذين يدخل ضمن حلقتهم ، الان ، اقرباء الدرجة الخامسة والسادسة والانسباء والاصهار وذوي العمومة والخؤولة ، ويفرض واقع محدودية الموارد ان يمتد الشره والتكالب الى بعض ما بايدي بعض الحيتان ومراكز القوى الاخرى ، السياسية والمالية فتحبك المؤامرات وتلفق الاتهامات وتجري التصفيات ويتعاظم لدى العائلة / الطبقة ، الادراك بتناقض مصالحها ، جوهريا ، مع مصالح الجماهير ، وتتنامى لديها قناعة باولوية بقاءها واستمرارها او الطوفان رغم ان قاعدتها الاجتماعية تضيق اكثر فاكثر وتتعاظم الكراهية وروح التشكيك والعداء ، حولها . خصوصا بعد ان تمتد ضغوطها الى متوسطي الحال والفقراء لحلبهم والاستحواذ على بعض من مواردهم او منافعهم العامة ولا تعود تنفع او تؤثر زمر المنتفعين من المؤدلجين والمروجين من الاعلاميين او السياسيين او شيوخ او اغوات او رجال دين او غيرهم او سياسات زرع الكراهية والخوف من الاعداء الخارجيين او الداخليين المتربصين.
وبدلا من صورة الزعيم المتحمس المحبوب ، بطل القومية او الاشتراكية او الاستقلال ، تحل صورة الاولاد والاحفاد والاقارب الغارقين في الفساد والعمالة والنذالة تحت رعاية الاب الزعيم الذي لم يبق من زعامته الاّ ظل غارب وكلمات متقهقرة واحلام مضمحلة في الوقت الذي تتحول يه معاناة الشعب وهمومه اليومية الى وسط مشجع ومتقبل لكل رواية ، مهما كان نصيبها من الصحة ،يزيد من تحول الجماهير الى مادة قابلة للشحن والاشتعال ، فتشتعل هنا او هناك ، منذرة بالحريق القادم او تركن الى السلبية وتمني اية قوّة مخلصة في اسؤ الاحوال حتى وان كانت اجنبية !
ما يخفف ،في بعض الحالات ،من تسارع هذه المتوالية ،وفرة المال بايدي السلطة وقدرتها على الرشوة او منح الفتات لعامة الناس ، لكن ازمة اقتصادية كالتي نعيشها ، كفيلة بكشف كل عيوب الطبقة المتسلطة وجهلها وانعدام قدرتها على الادارة ،لان الغنى والمال سّتار والفقر ونقص الموارد شّهار كما يقول المثل العراقي ، وكما هو واضح اليوم ، سواء في بغداد ، او اقليم كردستان ، بالتبعية .
انها ، في الحقيقة ، الحبكة ذاتها ، يعاد تمثيلها على مسارح مختلفة بطبعات معدلة ، يعاد انتاجها ، باستمرار ، في هذا الجزء من العالم ،ولن تشذ كردستان عن هذا المآل ان لم تتمتع قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والعائلة البارزانية خصوصا ، وحلفها العائلي، الاقتصادي، السياسي ، بالحس التاريخي والسياسي السليم فتترك ما لله لله وتجعل ما لقيصر لقيصر وتحتكم اولا واخيرا الى صوت العقل و مقتضيات ،المنطق فتخسر القليل الزائل لتكسب الكثير الباقي .
يجب ان تتجاوز قيادة اقليم كردستان الفهم الضيق الذي تعززه ايحاءات بعض المحيطين بها من ان الاحتجاجات ذات بواعث ضيقة وفئوية مرتبطة بهذه الفئة او المنطقة او تلك ، رغم انها عكست ابتداءا، احتجاجا كان يختمر ، منذ وقت ليس بالقصير ، في السليمانية وما تمثله ، وتفهم ان الامر لن يقتصر على السليمانية ابدا ، بل ان من يعرف الناس في اربيل ، يعرف جيدا ، ان كلمات الاحتجاج ذاتها ، تجري على الالسن بحذر وترقب ، كما يتعّين عليها ، ان لا تركن ابدا ، الى الوعود او التطمينات التي تتوسمها في قوى الهيمنه العالمية وحلفها الاقليمي ، فلم تحمي هذه القوى ، حلفائها ورجالها ، حتى في اعتى الانظمة البوليسية التي كانت طوع بنانها وشرطيها ومنفذ اجندتها في المنطقة ، حيث تركتهم لمصائرهم وتعاملت ، في معظم الحالات ،مع القوى الجديدة الصاعدة وفقا لمقتضيات الامر الواقع .
ان احزاب السلطة وعوائل السلطة في اقليم كردستان ، وهو امر واحد في اغلب الاحيان ،مثل اخواتها في بغداد ، عاجزة ، بحكم الطبيعة والنشأة والارتباط وظروف الولادة والنمو غير الطبيعية او التاريخية عن الخروج عن اطار الازمة والتعامل مع انسداداتها المحتملة المميته بروح ايجابية وبناّءة تستهدف الحل وهي ، بجميع مكوناتها الفاعلة القائمة ، غير قادرة على انتاج شيء سوى لعبة اقتسام المغانم والامتيازات واعادة اقتسامها ، وستترك الامور ، في كردستان ، مثلما في العراق ، تسير الى التعّقد واختزان المزيد من الغيض والحنق واليأس حتى انفتاحها الاكيد على دورة جديدة من العنف الدامي، ستكون مسرحا مناسبا ، جدا ، لمباضع جراحات اقليمية وعالمية لا تشفي المريض بل قد تنقله الى حالة اكثر او اقل سؤا من المعاناة الدائمة ان لم تتسبب في موته ونهايته ، حتى يكون لشعب العراق ، بعربه وكرده ومكوناته الاخرى ، ويكون لشعوب المنطقة ، كلها ، قدر من التاثير ودور في اعادة صياغة الشأن الوطني وقبله الاجتماعي وفقا لمعادلة جديدة ممكنه .
مقالات اخرى للكاتب