استقبال غير طيب
اقبل المساء وتحت إبطيه أولى هدايا الصحراء: عاصفة رملية!
أمام جبروت العاصفة في تلك الليلة لم تصمد كثير من الخيام، مالتْ وتزحزحتْ قليلاً عن أماكنها، فيما انكفأ عدد غير قليل منها مهزوماً أمام الريح القوية، انخلعتْ أوتاد بعض الخيام وأعمدتها فطارتْ من على الأرض كأنها طيور قماشية أسطورية.
كان استقبال الطبيعة لنا يومذاك غير طيب !
مرت الليلة الأولى بصعوبة بالغة، الليلة الأولى خارج (الوطن القفص ) بالنسبة للأغلبية الساحقة من اللاجئين، وكان صباح اليوم التالي تشوبه صفرة لأن ذيول العاصفة ظلت عالقة في الهواء، أما الأشياء والموجودات فقد غطتها طبقة رملية سميكة نوعاً ما، جاهدنا في إزاحتها، ثم انشغلنا بتنظيف ملابسنا وأنوفنا وآذاننا، غسلنا شعر الرأس، نظفنا البطانيات، ضحكنا لسوء الحظ طويلا.
يوم رفحاء الأول لايمكن نسيانه على الأطلاق.
وطن جديد
هذا هو صباح اليوم الثاني، أشرقت الشمس في سماء زرقاء بلا غيوم وبدا الطقس رائقا كأنه تنكر لعاصفة الليلة الفائتة، رفعت رأسا مثقلا بالأفكار والخوف بعد الليلة الأولى خارج الوطن، أسوأ مافي هذه( الرحلة) أنها تمت بطائرة مظليين!، ويقينا فإن الأسوأ منها هي أن تلك الطائرة هبطت بنا في الصحراء المعزولة بعيدا عن سمائنا وأرضنا.
اول شيء انفتحتْ عليه عيناي هو عمود خيمتنا المائل الى السقوط مشيرا إلى العراق، وقماشة الخيمة المغطاة بما جرفته العاصفة من رمل ناعم، رمل أصفر ضارب الى السمرة خدَّدته الرياح العاصفة.
بباب الخيمة وقفتُ أتأمل ماحدث في العالم من حولي، وأي عالم كان!؟
اوتاد مخلوعة، أعمدة منزوعة، وجوه متربة، خيام مفروشة على الأرض تحتها أمتعة وأفرشة، أما نحن فقد لذنا ببعضنا البعض خلال الليل، بمن صمدت خيمته لساعة أو ساعتين أو ربما حتى الصباح، لقد تهاوى الكثير الكثير من الخيام ليلا وسقط ، فحار اللاجئون تحت قماشة الخيمة السميك: فالبقاء يعني الاختناق والخروج يعني مواجهة العاصفة!
وسمعت الجيران يتحدثون بصوت عال ويتضاحكون:
-يعني لو ماربّ العالمين ستر علينه البارحه..جان صبّحنه بحفر الباطن!
-آنه ظليت نايم وشبعان ضحك على الحظ التعيس اللي جابنه لصحراء السعودية، وانته شني اخبارك؟!
-آنه ظليت أكَرط رمل!
-وانتِ حجية شلون صبرتي للصبح؟!
-يمّه والله ماأدري شلون صبَّحتْ، عشت عمر طويل بس مثل البارحة ماشفتْ!
بدا المخيم تحت شمس شهر مايس ورشة عمل هائلة وسط الصحراء، فقد شمَّر اللاجئون عن سواعدهم وانشغلوا بإعادة نصب الخيام تحسبا لعواصف مماثلة خلال الأيام المقبلة. إن صورة جوية للمخيم في ذلك اليوم، لابد أن تظهر أنه أرض مقطوعة لا تنتمي إلى الصحراء، أرض استعمرها بشر جيء بهم من مكان بعيد، لدراسة إمكانية إعادة توطينهم، دراسة سلوكياتهم، وبالنتيجة :الحط من قدرهم كما سنرى في أكثر من موضع في هذه السطور المتواضعة!
على أية حال لايناسب الصحراء غير أهلها الحقيقيين البدو ونحن لسنا كذلك، لكننا خضعنا فجأة لتجارب أقدار رسمتها السياسة، وضرب الصفح عنها سياسيون كم كانوا يتمنون لو أن العراق لم يوجد أصلا!
* * * * *
بدأ الجيران بتنظيف الأفرشة والبطانيات، كل شخصين يتقابلان ويشدان البطانية شدا قويا محكما ثم يخفقانها الى الأسفل في حركة سريعة متوازية، حتى ليبدو أنهما ينخلان الرمل الناعم نخلا، هاهم يجمعون كل شيء خارج الخيمة المتهاوية: اواني الطعام والبطانيات والوسائد وغيرها من الأمتعة، ثم يعيدون نصب الخيمة من جديد: يثبتون الأوتاد، والعمود يعيدونه إلى مكانه منتصبا وسط الخيمة، وبعد ذلك يشدونها من أركانها الأربعة.
* * * * *
وصلت قبيل الظهر شاحنات المياه الصالحة للشرب، اغتسلنا ورششنا الماء الوسخ بباب الخيمة بعد أن قام شقيقي الأصغر أحمد بكنس الباب من الرمل، ثم ما لبثت أن تقدمت شاحنات المواد الغذائية وتوزعت بين الخيام، هرول شقيقي الثاني حيدر ووقف مع الآخرين في طابور طويل، عاد بعد قليل بحصتنا نحن الثلاثة من الرز والشاي والمعلبات.
لم تكن لدينا شهية يومذاك، لقد ازدردنا ما فيه الكفاية من الرمل!
* * * * *
لم يكن الشارع الرئيسي معبدا أو مزفتا، كان السعوديون قد مهدوه بالجرافات وتركوه كما هو وقد نتأت فيه صخور وأحجار، ومرت عربة عسكرية مكشوفة من نوع جيب فيها جنود سعوديون مدججون بالأسلحة: بنادق أوتوماتيكية أمريكية الصنع وحراب وعصيّ كهربائية، ووقف واحد منهم وراء مدفع رشاش من العيار الخفيف منتصباً على ظهر العربة، وبدا الجندي مستفزاً ومتحفزاً لهجوم محتمل، ثم مالبث أن وجه مدفعه يميناً وشمالاً في حركات بهلوانية نزقة كانت تثير السخرية أكثر مما تثير الاشمئزاز، ولعله أراد من خلال حركاته التذكير بأننا قوم مهزومون تحت رايته المنتصرة!
ومما زاد في عدائيته أن مجموعة من اللاجئين لما رأوا حركاته هزأوا منه في الحال، وعبر أحدهم ساخرا:
-موهيجي يوكفون وره الرشاشة أبو الشباب!
* * * * *
اضافة إلى تلك العربات المسلحة كانت أخرى غيرها تجوب شوارع المخيم، الرئيسي والفرعية، يستقلها مدنيون سعوديون (عرفنا فيما بعد أنهم أعضاء في الإستخبارات السعودية)، وأيضا ضباط مهمتهم الوقوف على احتياجاتنا من الخيام والأغطية وأواني الطعام.
مقالات اخرى للكاتب