يذهب البعض بعيداً وخصوصاً من الذين يعملون في مجال الإعلام بأن حرية التعبير عن الرأي لاتخضع لأي ظوابط وأنها تدور في أفلاك عبثية مفتوحة الآفًاق تتجاوز كل الحدود بما فيها الخطوط الحمراء ومن حق الجميع المشاكسة فيها، وهذا ما يؤكده واقعنا الإعلامي في يومنا هذا من خلال تلك الفوضى التي أخذت تزداد يوماً بعد يوم، لتستطيع بالنتيجة هذه الثلة ان تمنح لنفسها صلاحيات مفتوحة تؤهل حاملها التمتع بالقدرة على التسقيط وإصدار الأحكام والمطالبة بتنفيذها ولم يقتصر ذلك على القضايا التي هي من اختصاص الاعلام بل بدت لتتجاوز حتى شملت كل زوايا المجتمع لتصبح بعد ذلك سابقة خطيرة كون ان مهمة الاعلام مهمة حساسة لأنها تخاطب جميع طبقات المجتمع وبكل الاتجاهات، وهذا ماشهده واقعنا وخصوصاً في العقود الاخيرة اذا ما نظرنا الى الهرم من رأسه لنجد أولئك الذين هللوا لتلك الفوضى بعد ان أطلقوا على العملية برمتها كشكل من أشكال الديمقراطيّة والتي هي بطبيعة حالها مسعى وهدف من أهداف الشعوب المتطورة ان لم تكن واحده من اهم طموحاتها،ليصفوا بذلك حالهم بدعات التحضر. يعلم الجميع ان للحقيقة وجهٌ واحد ولا يختلف على ذلك اثنان، ولكن عندما يصبح العكس وتأخذ فيها الحقيقة وجهان او حتى لأكثر من ذلك بعض الأحيان، فهذا بحد ذاته أمراً خارجاً عن المألوف وانعطافاً حاداً في مصداقية الاعلام، وعند البحث لمحاولت الوقوع على أسباب ذلك من خلال نظرة الى الواقع الذي نعيشه نجد مايحصل في الساحة ما هو إلا نتيجة حتمية لتلك الانعكاسات التي أفرزتها الصراعات السياسية والتي كان لها الأثر السلبي والواضح وبشكله المباشر على كل مفاصل الواقع الذي نعيشه والذي يعتبر الاعلام فيه من الأجزاء الحيويّة، فبات ذلك جلياً وملموساً على واقعنا اليومي وخصوصاً بشقيه الاجتماعي والثقافي الأمر الذي بدوره ولد ذلك الانعكاس على الجانب الانساني وبالتالي سعى الاخير لمصادرت ذلك الموروث الجميل والمتمثل بالقيم والمبادىء والتي هي الميزة الحقيقية التي تميّز بها بني البشر عن غيرهم من بقية المخلوقات. فبعد ان شهد العالم بأسره موجات من التطور وفي كافة المجالات وخصوصاً على صعيد التكنلوجيا الَتِي أسهمت في تغيير الكثير من الاليات في حياتنا اليومية، وكان لمجال الاعلام والاتصال النصيب الأوفر من هذا التطور وعلى الصعيدين التقني والمهني، فعلى الصعيد التقني مثلاً نشهد ذلك التحول الكبير الذي جعل من العالم بسعة جغرافيته وأُفقه لأن يكون عبارة عن قرية صغيرة تمكنك من إيصال صوتك الى ابعد نقطة من العالم وبلمح البصر من خلال كبسة زر واحدة ومن مكان تواجدك يمكنك تحقيق ذلك بمجرد إرتباطك بالشبكة العنكبوتية، وأما على الصعيد المهني وهو الأهم في رأي الكثيرين من خبراء مهنة الاعلام كون هذه المهنة حالها كحال بقية الأسلاك التي تشترك في ربط اجزاء المجتمع فلها مالغيرها من خصوصيات وضوابط اخلاقية ومعايير وثوابت لايستطيع كائناً من كان ان يتجاوزها وان حصل ذلك فسوف يكون الحكم عليه بالشذوذ اذا ما أخذ الأمر اكثر جدية من ذلك اذا ما تدخل المسؤولين والقائمين على هذا المفصل الحيوي بغية الحفاظ عليه والسعي على تطويره وجعله دائماً متجدد ليتناغم مع لغة العصر ومواكبة الاحداث التي نعيشها آخذين بنظر الاعتبار أن الرسالة الإعلامية بطبيعة حالها لايمكن تجريدها عن عنصري الزمان والمكان.
وللبحث عن الدليل لإثبات ذلك نجد أنفسنا امام كم هائل من الأمثلة والتجارب التي تعبر عن ذلك تعزو وفرتها لكثرت الاحداث والتغيرات التي حصلت وأفرزها الواقع، والأقرب منها في يومنا هذا هو ما صدر مؤخراً عن هيئة الاتصال والإعلام بإيقاف برنامجين تلفزيونين بثتهما قناتي السومرية والعهد ( البشير شو ، وكلام وجيه ) والغريب في الامر أن البرنامجين قد دام بثهما لفترة ليست بالقصيرة ولهما قاعدة جماهيرية لا يستهان بها ولكن المثير في الامر اذا ماوقفت على سبب إيقافهما والذي هو سبب مشترك كون أن مقدمي البرنامج قَد اوغلا في الانتقاد حتى وصل بهم الحال الى رفع كل الحواجز ليصل بهم الامر الى التجاوز على رموز دينية ومن طائفتين لها حضور فاعل ومؤثر ولها مكوناتها الخاصة ومعتقداتها وبالتالي سبب كل ذلك في إثارت حفيظة الرأي العام بين مؤيد وآخر يعارض حتى نشبت كثير من المشادات الكلامية التي يرصدها المتواجدون على وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا وإذا ما نظرنا الى الموضوع من زاوية مهنية وراجعنا حلقات كل من البرنامجين لوجدنا ان كليهما يشترك بصفة عدم المهنية ونقصد بها هنا اخلاق المهنة أو آداب المهنة ( professional Ethics ) وهي تلك المجموعة من القواعد والآداب السلوكية والأخلاقية التي يجب أن تصاحب الإنسان المحترف في مهنته تجاه عمله وتجاه المجتمع ككل، وبالتالي تجاه نفسه وذاته. حيث نجد ان مقدمي البرنامج لم يستخدما أبداً طريقة نقدية مهنية وحضارية بل استعاضا لذلك باللغة الساخرة للبرنامج التي أعطت انطباعاً للمتلقي المتذوق بالسطحية في الخطاب وتدني المستوى في استخدام اللغة حيث استخدم الاول ( البشير شو ) روح الفكاهة التي تمثلت بحركات لمجموعة من القرود وبأصوات مختلفة تصاحبها بعض الرقصات لتتحول الى تهريج مسرحي هدفه الاستهزاء بالمادة المطروحة وبالتالي فهو استهزاء بالمتلقي .اما الاخر فهو الطامة الكبرى لأنه كان تماماًعلى عكس مايشير اليه اسم البرنامج ( كلام وجيه ) حيث يسعى دائماً لظهور بصورة عدم الوجاهة في الحوار من خلال اللغة السطحية الذي يستخدمها المقدم والتي يعززها دائماً بالعرض الصوري المقرقز من خلال بعض الدمى التي يضعها أمامه ومن بينها الحمار ( ابو صابر ) كما يطلق عليه وهذا بحد ذاته استهزاء بالمقابل وهذا على العكس تماماً لما تسعى اليه جميع القنوات المحترمة الى تتجنب هكذا أساليب لتسويق مادتها الإعلامية . فالمهنية بتعبير اخر هي تلك القدرة التي تمتلكها وسائل الإعلام في تكوين صورة المنبر الحر للرأي والنقد مع الحفاظ على دورها لأن تكون كناقد بنّاء وإيجابي وفي نفس الوقت تراعي الحفاظ على القيم النبيلة واللغة الرفيعة لكي تخرج بصورة حضارية ناضجة . فإيقاف البرنامج وحده ليس كافياً من وجهة نظر المجتمع المتحضر بل يجب محاسبة القناة وأشعارها وحثها على تغيير ستراتيجيتها كون ان قبول هكذا نوع من البرامج هو إساءة مباشرة للمجتمع الذي هو بطبيعة الحال المتلقي لمثل هذه البرامج.
مقالات اخرى للكاتب