أنا مصاب بمرض السكري. افضل نصيحة قدّمها لي طبيبي هو أن انسى المرض وأتعلم إحتواء آثاره النفسية.
الكآبة والقلق اهم تلك الآثار، ومعهما تصبح الحياة بلا قيمة.
لا أستطيع ان آكل ما اريد أو اشرب ما أحب. لا يتخثّر دمي بسهولة حين أتعرض لجرحٍ ما. المرض لا يشفى. سأموت قريباً. هذا الهوس هو الذي صنع كآبتي وقلقي في بداية الأمر وصارت الدنيا في عيني سوداء غير ذي قيمة، لكني تغلّبت على هذا كله حين عملت بنصيحة طبيبي. وهأنذا اغدو بلا قلق من هذا المرض ولا خوف من آثاره.
هذه مقدمة اسوقها لأني لمست تشابهاً ملحوظاً بين مرض السكري وبين معضلة المظلومية، فالعيش في سرديّة المظلومية يشبه الرضوخ لقلق السكري. الأثنان يقودان لليأس فيشكلان البنية الاساسية لفعل اللحظة، اذا استطعنا احتوائهما، نكون قد احتوينا ذلك الفعل، سواء كان فعلاً اجتماعياً ام سياسياً.
لا شك إن الشيعة في العراق تعرّضوا الى ظلم شديد في تاريخهم، لكن لم يكن هذا الظلم فعلاً اجتماعياً ممنهجاً، بل فعلاً سلطوياً محضاً وظّف بصورة مبطّنة صراعاً تأريخياً موجوداً لدعم حكم دكتاتوري فردي. سعى نظام الدكتاتور صدام الى تحويل جدلية السلطة والمعارضة الى مفهوم عرفي مُبسّط يعني في طيّاته نزاعاً سنياً شيعياً على السلطة، وإن أي معارضة لصدام كان يُبلّغ لها البعث بأنها معارضة خمينية صفوية مجوسية، وهي رموز تُحيلنا بدورها الى التشيّع كمذهب فقهي اسلامي. وبسبب طبيعة الاحزاب السياسية المعارضة ذات الصبغة الاسلامية الشيعية ومناخ الحرب العراقية الايرانية آنذاك، لم يُعانِ البعث كثيراً في تأسيس ونشر هكذا تصوّر. وبالفعل نجح البعث نوعاً ما في تثبيت فكرة إن حكم صدام ضمانة للسنّة من خطر شيعي قادم، وبهذا صنع سرديّة سنّية، قائمة على اساس الخوف من مظلومية مستقبلية قادمة، كان المستفيد الوحيد منها صدام وحزبه في السلطة.
اليوم يتعرّض السنّة في العراق الى نفس تلك المظلومية. ليس أنا مَن أقول هذا، بل منظّر المجلس الاعلى الاسلامي وواحد من مؤسسي العراق الجديد الشيخ همام حمودي الذي صرّح يوم امس بأن السنّة ظُلِموا في عراق ما بعد ٢٠٠٣. وهذا الظلم كذلك ليس فعلاً اجتماعياً ممنهجاً بقدر ما هي إرادة سلطوية جديدة حاولت هي الأخرى الاستفادة من سرديّات التأريخ السحيق وتوظيفه في صراع السلطة القائم في العراق.
لا ترى سلطة العراق الحالية أيّ حراك سياسي او عسكري في المنطقة الغربية سوى حراكاً بعثياً داعشياً إرهابياً، وهذه لعمري تشبه تلك النمطية التي سار عليها البعث مع الشيعة كما وضّحنا مسبقاً. فتاريخانية الصراعات المذهبية وتوظيفها في الفعل السياسي ممارسة سلطوية بحتة، يستفيد منها الحاكمون ويُقتَل من اجلها التابعون.
اليوم، لا يرى الكثير المظلومية على إنها صناعة سلطوية، بل يعتقدها نتاج فعل اجتماعي منظم. هذا هو الأخطر في هذه المرحلة، فالإعتقاد بأن المظلومية فعل اجتماعي يعني إن شريحة من المجتمع مسؤولة عن إلحاق الاذى بشريحةٍ أخرى، وإنها هي وراء ذلك الظلم وليست السلطة السياسية فقط.
من هنا تتحوّل المظلوميات الى ايديولوجيا، تُحرّك افعال المجتمع الإنتقامية وتعطي للعنف مبرراً إخلاقياً.
لقد تحوّل حلم العيش سويةً في ظل سرديّة "إننا مظلومون" الى معجزة وصار خطاب المظلوميات مصنعاً للكراهية بين ابناء الشعب الواحد. ليس ثمّة مهمة في هذه المرحلة سوى تفكيك ذلك الخطاب وكشف تلك اللعبة السلطوية التي لا علاقة لها بأي فعل اجتماعي.
نعم، المظلومية موجودة ولكلا الطائفتين، لكنها نتاج ممارسة سلطوية وليست فعلاً اجتماعياً ممنهجاً، والعيش في سرديّاتها للأبد تتحوّل الى إشكالية معقدة لا تهدد بنية الدولة الواحدة فقط، بل تستنزف دماء وطاقات ابنائه وناسه وتقضي على المجتمع برمّته.
مقالات اخرى للكاتب