مثل كل الاحداث التي تمرق وهي تأخذ حيزها الاعلامي الذي يناسب حجمها واهميتها وانتشارها الى ان يخبت خبرها ويصبح في غياهب الذاكرة مالم يُحرك مجددا او تحصل هناك مفاجئة تجعله يرجع الى الصدارة الاعلامية مرة اخرى , مرت علينا الهالة الاعلامية الانفجارية التي صاحبت اعلان الاهوار العراقية محمية على لائحة التراث العالمي وقد استغرقت وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي والتجمعات الحوارية والندوات العلمية في تداولها حتى لم يبقى مفصل من مفاصل تلك المساحات المائية الجرداء الا وتم التطرق لها وبمبالغة واضحة وكأن تلك الاهوار قد ارتفعت عن مستوى التأصل الذي يلحقها بارض بلاد ما بين النهرين , وقد حسبنا ولبرهة وجيزة من خارج الزمن الذي نعيشه بأن العراقيين قد أهتدوا أخيرا الى رمز تراثي وطني عسى ولعل ان يكون نواة حضارية ليتحرروا من موروثات غابرة جعلتهم في غيبوبة لا امل من الاستفاقة منها ولا هم يحزنون .
وبمجرد الاعلان توالت التهاني والتبريكات مسرعة واحتدمت الاصوات لتطلق صيحة وطنية وهاشتاك # كلنا الاهوار وتسابق الجميع لجمع التواقيع ضمن استفتاءات الكترونية لا نعرف مصدرها وقد حجز البعض كراسي الشخصنة لتسمية الانجاز التاريخي بأسمائهم وتم الاحتفاء الاعلامي والاحتفالات الليلية الغير اعلامية وتعاقبت اللقاءات مع المختصين ومن اهالي الاهوار وغيرهم من الرواد والمخضرمين , وراح بعض الاخيار منا يحدثوننا بان نلتزم بالاخلاق الدينية والاعراف الاجتماعية خوفا من ان تصبح اهوارنا مرتعا للاجانب من السياح وان هناك عواقب وخيمة لمن تسول له نفسه بقلب ذلك التراث الى ما لا يحمد عقباه وفي جانب اخر فقد تفائل جمهور كبير من مشايخ الثقافة والكتابة وطلابها بان جزء حي من التراث العراقي سيعود بجهود وطنية وسترجع معه كل تلك التوصيفات الفطرية التي تصاحب العيش في الاهوار وستعيد الذاكرة صور الشختورة والفالة والسمك البني والقصب والبردي والخريط والجولان والمران ( نباتات اهوارية ) والبعض شمَّ رائحة خبز التنور الذي حطب النار فيه من روث البقر والجاموس الذي يسمى بالسرجين والمطال والذي تصنعه النساء على شكل اقراص دائرية لتستخدم بعد جفافها , والبعض قد استذوق خبز السياح الذي يعمل من طحين الرز بعد ان يجعلوه سيحا ثم يصبوه فوق اناء معدني مقوس من تحته النار يصنع خصصيا لذلك ولازال هذا الخبز يعمل في مناطق حتى داخل المدن , واخرون قد ارجعتهم ذكرياتهم لذلك القيمر المصنوع من حليب الجاموس الذي يمتلك المادة الدهنية التي تميز طعمه واستبشر خيرا برخص ثمنه , وقد وصل الامر بالبعض ليعلن الاهوار كمنطقة تستقطب الاستثمار المحلي والاجنبي لما سيصاحبها من تأثير في جعل المناخ معتدل الحرارة لكثرة المسطحات المائية فيه , كما تأهب علماء الاثار لعمل الفرق الميدانية لإستكشاف الحضارات التي عاشت على تلك الارض قبل الميلاد , والمهم فعلا هو ان يتصور الكثير بان وضع الاهوار كمحمية عالمية سيجعل دول الجوار تطلق المياة اللازمة لكي تعيد احياءها بعد ان تجردت من الماء الذي يجعل فيها كل شئ حي ونكون نحن لهم شاكرين فمن احيا الاهوار فقد احيا ارض الرافدين كلها .
ثم وبدون انذار توقف زمن الاهوار وانقطع البث الاعلامي والاقلام اصبحت جلباء لاتكتب وصيحات كلنا الاهوار قد سكتت عن الكلام المباح وارتحلت غيوم الصيف الكاذبة التي لاتمطر وبقيت الاهوار جرداء جافة فلا قطر نزل عليها ولا من ناصر أحياها وبقيت الامور على نصابها حسية لا مادية فلم نطّلع على برامج ذات توقيتات زمنية او على الاقل اهداف مدروسة او ان تتبنى جهة اختصاصية بمتابعة هذا الملف وتصدر البيانات الدورية او مجلة مصورة لواقع الاهوار اليوم ودراسة جدوى المشروع الاقتصادية والجهات التخطيطية التي ترسم السياسة التنفيذية ومصادر التمويل المالي والبرامج التطويرية المستقبلية للحفاظ على هوية تلك المستنقعات وكيف يمكن البدء بالبنى التحتية الاساسية لكي نضع المشروع على بداية السكة ومن ثم توفير الكوادر المهنية العاملة وبالتالي الاظهار التسويقي الاعلامي الذي يؤازر عمليات التحديث والتنفيذ والتطوير محليا واقليميا وعالميا , ولم يظهر أي مؤشر بان الحدث قد ارتقى الى مستوى الفلسفة ليمكن بعد ذلك من ارسال السفراء الى الدولة الولائية والدولة السلطانية برسالة واضحة المعالم مفادها ان عليكم اطلاق المياه التي جعلها الله رزقا مشاعا فان لم تفعلوا ستحل عليكم لعنة الامم المتحدة ومجلس الامن فيها ومنظمة التراث العالمية وستتحملون من جراء ذلك نتائج لا طاقة لكم عليها كما تحملها الذين من قبلكم لعلكم تذّكرون , والمحصلة ان واقع الحال يؤشر بان الاهوار ستظل في صمتها قابعة الا من بعض الدعوات والمعارض الصورية من هنا ومن هناك او من بعض الهجمات الانتخابية الدعائية التي ستحي الارض بعد موتها على الهواء مباشرة دون ان يتحقق من الانجاز المنشود ولا حتى رقما واحدا جليا وستحفظ حكاية الاهوار العراقية وتراثها في ارشفة الاعلام وكانها نسيا منسيا .
شعب العراق واهله وحكومتة وساسته لا يأبهون فعلاً الى اهم ما يميز الحداثة والتطور وهو المستوى العملي والموضوعي والتخطيط العلمي المستند على المعطيات الواقعية والتي ينبغي ان تواكب الاجراءات التنفيذية وهم يستغلون منابر الاعلام بشكل مغالٍ فيه ثم انهم يفقدون كل البيانات من الذاكرة الجمعية وكان شيئا لم يحصل فكم حدث قد استهلك اعلاميا ولم يرى نور التطبيق او التنفيذ , وكم هي الملفات التي ُتدين وليس هناك اي ادانة وكم هو حجم الفشل الحكومي في الاعلام ولكن الفاشلون في مناصبهم عتات لا يغادرون , علينا اليوم ان نرتقي بالحدث الى التطبيق وليس التطبيل والى التنفيذ وليس الى التهريج والى الدراسة المعمقة وليس الى الارتجالية المدقعة , فقد مر علينا زمن قد رهنّا فيه ثرواتنا عندما ارخصنا نفطنا لغيرنا ثم رهنّا اقتصادنا عندما استقرضنا من غيرنا ثم رهنّا غيرتنا عندما اصبح ولاءنا لغير عراقيتنا , وتراث الشعوب
مقدس عندهم ونحن نعجز من ان نحافظ على قدسيته ونرهنه الى الغير , لا تقولوا كلنا الاهوار الا وانتم صادقين وعازمين والامل فينا الا نقول " كلنا العراق " ثم يصبح العراق وشعبه تراث عند الغير وبقعة من الارض محمية .
مقالات اخرى للكاتب