في اول مساء ، وانا اقرأ الاصدار الجديد لصديقي الشاعر المبدع ” جواد الحطاب ” تركته جانباً بعد ان شعرتُ بغصة الم ..عزوت الامر الى مزاجي المتوتر ساعتئذ ، وعند حلول غروب اليوم التالي ، مددت يدي اليه ، وبدأت في تصفحه … صفحة ، اثنتان ، ثلاثا حتى بدأ الوجدان يهتز اضطرابا ، وحين انتهيت من قراءته ، سرت قشعريرة في جسدي ، وشعرت بأن فؤادي تعتصره آلام لا نظير لها ، وامتدت أصابعي إلى محجريّ ، باحثة عن دمعة منسية في قعرهما ، لأذرفها بحرقة لأنني كنت لحظتها بأمس الحاجة إلى شيء يطلق الاسى المحبوس في صدري ، نتيجة صور ديوان الخطاب ،غير إنني لم أجد تلك الدمعة ، فالصفحات التي قرأتها جعلتني ابكي بصمت بلا دموع .. وما اقسى هذا النوع من البكاء !!
هل اطلق على المنجز الشعري الانساني المتفرد ، تسمية ( ديوان ) ام (نص نثري ) ام ( قصيدة طويلة ) … كل التسميات تتضاءل امام اصدار جواد الحطاب ( قبرها أم ربيئة وادي السلام؟ ) وهو مرثية للسيدة ” بدرية نعمة ” والدة الشاعر ..
37 صفحة من القطع المتوسط ، هي قصيدة الحطاب الى أمه .. وجع انساني يدمي القلب ، اجواء من الوجد الانساني ، صادقة ، مؤلمة حزينة ، لاتهب فيها نسمات الحياة ، ولا تكاد أشعة الشمس تسطع عليه ، فلا تراها في معظم الاحيان إلا في جوف الليل البهيم ، او عصر يوم من ايام الشتاء ، او خلال يوم ساكن في الخريف تحت سماء ملبدة بالغيوم ، عالم تتوارد فيه أحداث خارقة ، تتحدى العقل وسنن الطبيعة ، فنسمع هتافات من وراء الغيب ، وتشهد موتى يبعثون من مثواهم ، وارواحا تحل في غير أجسادها .. فهل هناك في الكون اسمى من الأم .. فكيف بشاعر بوزن الحطاب ، وهو يحاكي والدته التي ودعها ، وكأنه ودع الحياة ؟
( أنا الأن من دون بدرية ؟!!:
للمرة الأولى ، يحدث هذا :
أن تتركني بدرية نعمة
وتذهب بزيارة مجهولة !!)
*******
انا ادرك الحرفية الشعرية التي يمتلكها ” جواد ” لذلك هو ليس بحاجة للبحث عن اساليب دعائية للتحليق بأجنحتها ، بعد ان اصبحت شاعريته وحدة من التعبير الفني تحقق كل الايحاءات المطلوبة في نطاق لغة جديدة تم اكتسابها عبر تجارب كثيرة ، اكسبته النضج المطلوب في مقدرات التعبير ، وتمكن بالتالي من تطويع المعاني الوجدانية والرمزية ، بأسلوب آخاذ ، بعيد عن التقليد ، فأستحق في اصداره الجديد ( قبرها أم ربيئة وادي السلام ) ان يتبوأ صدارة من كتبوا شعر المراثي ، وهم كثر في الشعر العربي .. مثل ” الحطاب ” في قصيدته ، الحرارة اللافحة التي تصوغ لغة القصيدة على امتداد صفحاتها ، وهي تنبئ عن احتراق داخلي تشب ناره في الضلوع والسطور.. احتراق انساني من النوع الدي لا يرغب “جواد ” ان يعرف احداً سر دمعته المنثالة على حبيبته ، أمه ” بدرية نعمة ” مع مشروعية البكاء انسانياً ، فيرى ، دون ان يوضح ذلك ، بأن المرء عندما يعيش لذاته فان الحياة تبدو قصيرة وضئيلة ، أما عندما يعيش لغيـره فسوف تـصبح الحياة طويلة وعميقة ، وان الغضب ريح قوية تطفي مصباح العقل ، فأنتظر اسابيع بعد وداع والدته لتختمر مناجاته ، وتثمر عن هذه المرثية العظيمة .
كأني بجواد يناجي ” بدرية نعمة ” بقوله : آه .. ليتني ، كنتُ التراب الذي تتوسدينه ، دعيني أعانق الثرى الذي يضم جسدك الطاهر. وأنا من شعرتُ بقلق قبيل رحيلك والذي يتلفت بي يمنة ويسرة، والأوجاع التي تشهقني بل وتشنقني …لمَ رحلت؟ هل كنت بحاجة إلى الرحيل؟ ما أصعب البوح في زمن رحيل الأحبة، يا ليتني احتبستك أنفاسا في صدري وما تركتك ترحلين .. لقد خجلت من صراخي ، فالوجع يتدفق في جوارحي.
**********
لقد آذيتني اخي جواد الحطاب ..
امك أمنا جميعا ، ومهما كان الألم مريراً ومهما كان القادم مجهولا . .
فغداً يوم جديد . .
وغداً أنت شخص جديد!
مقالات اخرى للكاتب