لن يمنعني الفضول من دخول الحرم الجامعي للجامعة الامريكية في بيروت في صيف 2009 بعد ان استأذنت من حرس مدخلها الانيق ذي المسحة المدنية العالية التهذيب سواء في الاستقبال اوعند التوديع.
فبين العمران الجميل والمباني العريقة والممرات المعبدة بين اشجار الصنوبر، إعتلت الجامعة رأس بيروت وانحدرت حتى ساحلها. لفت نظري اثناء جولتي ان ثمة إعلان باللغة الانكليزية انتشر هنا وهناك ويشير الى حركة التضامن الطلابية مع قضية غزة المشتعلة في ذلك الوقت. وتساءلت في سري، كم هي الحريات الفكرية هنا؟ وما هي مساحة تأثيرها في هذا الصرح العلمي الرائع؟ انه امر يجلب الاطمئنان في هذا المستوى من التداول السلمي للوعي وعلى هذا القدر الممكن من الديمقراطية! وتساءلت ايضا، هل ان مناصرة قضايا العرب بهذا المكان بالذات، هي صفة موروثة منذ تأسيس الجامعة في العام 1866 ميلادية لتعبر حقا عن اصالة مؤسسيها والقائمين عليها؟
تجيب الجامعة في مكان ما، بانها اعتمدت اجمالا ومنذ تأسيسها على معايير اكاديمية حقيقية، وانها ما زالت ملتزمة بمبادئ التفكير النقدي والنقاش المفتوح، وان الجامعة مفتوحة للجميع دون تمييز في العرق او المعتقد الديني او الانتماء السياسي!. قلت يا لها من جامعة فهي مازالت تتحلى هي وطلبتها بمبادئ سامية توحد الأعراق والأجناس والطوائف والاديان، ولاسيما في بلد شديد الإنقسام وموغل بالصراعات الطائفية والإنقسامات الضعيفة في مضمونها الانساني او الحضاري لشعب اصيل واحد كالشعب اللبناني!.
وعلى الرغم من ذلك، لم تفاجئنِ اعلانات التضامن مع غزة التي ثبتت في اماكن الجامعة المختلفة، عندما تذكرت ان حركة القومية العربية الحديثة قد ولدت حقا هي الاخرى في هذا المكان في وقت صارت فيه امة العرب عرضة للتجزئة والانقسام!
فقد كانت الجامعة الامريكية في بيروت الوليد الشرعي لقادة الحركة القومية العربية والخط العربي السياسي، ابتداء من جورج حبش وباسل الكبيسي وانتهاء بابراهيم طوقان وعبد القادر الحسيني وغيرهم!. فهذه المؤسسة التعليمية الامريكية قد ولدت اقوى قادة الحركة القومية في تاريخها، وربما ستنطلق وحدة العرب في يوم ما من بين جدرانها المجهولة! بعد ان صارت الوحدة الأمل المفقود لهم جميعا من يدري!.
قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن و في يوم ثلجي عاصف في احدى مدن شمال القارة الامريكية، يومها غطت فيه الثلوج اديم الارض ومن عليها وكانما كنا نعيش في تلك اللحظات مأدبة وحشية للفناء ونحن جميعا بانتظار حافلة الجامعة كي تنقلنا الى حرم الجامعة من اماكن تجمعنا. وقد جمعتنا محنة العاصفة الثلجية في ذلك اليوم مع مجموعات طلابية من مختلف الاجناس البشرية، كان عدد منهم قد جاء من لبنان في وقت قريب، فتعرفنا على بعضنا في هذه المحنة العاصفة ووجدتهم بعد التعارف انهم من خريجي الجامعة الامريكية في بيروت في العام الفائت. تذكرت عندها بان إحياء بيروت مازالت تتقاذف فيما بينها نيران المدافع ولأي سبب تافهه كبديل للشتائم السياسية لأن لغة المدفع كانت اهون على امراء الحرب من لغة الحوار السلمي! وتعرفت من فوري انهم من وطن واحد، وهم اصدقاء في الوقت نفسه. فهذا من حركة امل وذاك من القوميين السوريين، والآخر من الكتائب اللبنانية المسيحية! سألتهم والعاصفة الثلجية مستمرة، كيف كنتم تستطيعون الوصول الى الجامعة الامريكية في قلب بيروت، وانتم من اطراف ومشارب متناقضة كما رسمتها خريطة الحرب الاهلية؟.
وكيف يمكن لكم حتى الانتقال او الترحال بهذا اليسر والمرور بالمعابر الطائفية بسلام دون القتل على الهوية! كان جوابهم؟ انها المقاصة الدراسية! وقلت لهم ماهو شكل ومضمون هذه المقاصة الدراسية التي سهلت امر دراستكم واكسبتكم السلام والحرية؟ فكان الجواب... حمدا لله... طالما انك تحمل هوية طالب في الجامعة الامريكية فمن حقك العبور من غير ان يستفسرك أحد عن الهوية الفرعية الطائفية! قلت لهم لقد اصبحت هوية الجامعة الامريكية الفرعية بمثابة الهوية الوطنية التي يحترمها امراء الحرب جميعا؟، فكان الجواب نعم؟ قلت ولكن لماذا هذا الاحترام لهوية الجامعة الامريكية؟ فهل لكونها امريكية؟ فكان الجواب كلا؟ ولكن ان جل ابناء الحرب المتقاتلين على قطعة الشطرنج اللبنانية اواخوتهم اومريديهم هم من طلبة ذلك الصرح الجامعي الحر الديمقراطي؟ قلت في نفسي انها اذن جامعة غصن زيتون تجمع لبنان في محنته! كان الجواب نعم. لقد اعجبتني تلك المقاصة الدراسية حقا لما تحمله من شجرة سلام وقدرة على توفير مناخ تحترم فيه الهوية الفرعية الجامعية كهوية وطنية جامعة موحدة، وتمتلك القدرة في الوقت نفسه في التغلب على الهوية الفرعية الطائفية او الإثنية المفرقة، في بلاد ظلت تحارب المجهول وتبحث عن العدم وتعشقه حتى وقت قريب!
سارت الحافلة بنا نحو جامعتنا ونحن في القارة الشمالية الامريكية بعد ان هدأت العاصفة الثلجية، وانا افكر مليا بان عاصفة صحارينا لم تهدأ بعد! ولكن متى تهدأ؟
للاسف الشديد ما عجزت عن فعله الجامعة العربية في يوم ما ربما حققته الجامعة الامريكية في بيروت في حقب مختلفة!، والسبب هو توفير او توافر مناخ سلمي حتمي وموضوعي بمقدوره تغليب العقل المدني ولغة التسامح والقبول بالآخر كبديل للعصبية القبلية والتصلب المعتقدي وفقدان القدرة على الحوار في عصر تعاظمت فيه مناخات البداوة السياسية ومجاهيل الصحراء وجفاف عطائها. انه عصر مترب، غاضب، مازال حتى اللحظة يفتقر للامل ولم تتوقف زوابعه. بل الأدهى ان الجمع المتناقض كله قد دخل هذه المرة بعصر يكنى بعصر الالفية الثالثة وبأبواب سياسية مشرعة بلا هدف! ولكن... ليعلموا جميعا بان تلك الابواب لا تغلق الا رقميا!
مقالات اخرى للكاتب