تبقى ثورة 14 تموز 1958 في العراق واحدة من ألمع صفحات التاريخ المشرف للعراقين على الرغم من كل محاولات البعض ممن وقفت الثورة في سبيلهم وقطعت الطريق على مشاريعهم الإستعمارية أو أصحاب الفكر الشوفيني العنصري الذين حالت الثورة بينهم وبين مخططاتهم في تجريد العراق من هويته الوطنية وإلحاقه بأحلامهم القومية والعروبية ولقد حاول نظام البعث المقبور وخلال اكثر نصف قرن ومن خلال أستخدام ماكنة إعلامية وثقافية مُظللة أن يشوه ولو القليل من تاريخ ثورة تموز ورجالها لكنه مُنيّ بفشل ذريع فلقد ظلت صورة الثورة ورموزها ومن أخلص للدفاع عنها نقية في قلوب وعيون العراقين بل أنها زادت العراقين إصراراً على التمسك والوفاء لتلك الصفحات من تاريخ العراق العظيمة فلقد تركت ثورة تموز ممثلة بزعيمها أبن العراق البار الزعيم المرحوم عبدالكريم قاسم ( 1914 – 1963 ) أثراً خالداً لاينسى من خلال العلاقة الصميمية بين القائد والجماهير وجعلته يحتل المكانة التي لم يستطع أن يحتلها غيره في تاريخ العراق القديم والحديث في قلوب الجماهير وضمائرهم .
أن نجاح الزعيم عبد الكريم قاسم في قيامه بتأسيس أول جمهورية في العراق الحديث في ظروف تاريخية كان يعيشها العراق في غاية من التعقيد والصعوبة حيث الهيمنة الإستعمارية لمعظم دول المنطقة من خلال الإحتلالات المباشرة لبلدان المنطقة العربية وربطها بمعاهدات وأحلاف أستعمارية جعل من الإستحالة لمن يتصدى لموضوع الثورة أو التغير أن يفكر بقيام ثورة بحجم ثورة الرابع عشر من تموز بالعراق حيث كان العراق مرتبطاً بحلف بغداد أو الحلف المركزي الذي تشكل في العام 1956 والذي كان يضم في عضويته بريطانيا والعراق وباكستان وتركيا وإيران وكان هدف الحلف تنفيذ المخططات الإستعمارية لبريطانيا في منطقة الشرق الأوسط وكذلك الحلف الهاشمي أو ما يسمى ( الأتحاد الهاشمي ) بين المملكة العراقية ومملكة الأردن الذي تأسس في العام 1958 كل تلك الضروف جعلت التفكير بقيام ثورة تحررية بالعراق شيء أشبه بالحلم البعيد المنال لكن شخصية بحجم الزعيم عبدالكريم قاسم ومواصفاته القيادية والكاريزمية جعلت بالإمكان تحقيق ما لايمكن تحقيقه فلقد عرف عن الزعيم قاسم وطنيته وإخلاصه لبلده إضافة إلى شجاعته وإقدامه في كل مراحل حياته سواءاً العسكرية أو المدنية بالإضافة إلى عوامل مهمة أخرى رسمت نواحي شخصية الزعيم منها نزاهته وتعففه ونظافة يده وعدم مد يده لنفسه أو لأسرته أو للمفربين منه للمال العام بأي قصد كان وهذا الشيء أعترف له به أعدائه قبل أصدقائه ولقد كانت تلك المؤهلات مقدمات للفعل التاريخي الذي أقدم عليه الزعيم قاسم صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 .
في هذا اليوم كان القدر يرسم للعراقين موعداً جديداً وتاريخياً مع عودة شؤون الحكم إلى العراقين بعد ما يقارب أكثر من ألفي عام من أستلاب الحكم من العراقين حيث تعتبرسلطة الملك البابلي آراميان نابونيدوس ( 556 – 539 ) قبل الميلاد آخر سلطة يقودها حاكم ملكي عراقي من بلاد وادي الرافدين قبل أن تسقط فريسة لأحتلال سلطة امبراطورية أقوى هي الأمبراطورية الفارسية وكان هذا الأستلاب يتم في مراحل العراق التاريخية تحت شتى المسميات الدينية والقومية والعقائدية ولقد كانت في ثورة تموز ورجالها فرصة تاريخية في أعادة الحياة لروح الدولة العراقية الحديثة التي قوامها الجمهورية والوطنية بعيداً عن التبعية ومسخ الهوية الوطنية .
عرف عن الزعيم عبد الكريم قاسم أنه أبن بيئته العراقية الأصيلة فهو ولد في محلة المهدية في مدينة الفضل وسط بغداد في عام 1914 في نقطة فاصلة من تاريخ العراق الحديث حيث الأنتقال من الحكم العثماني الذي أمتد لما يقارب الأربعمائة عام منذ الأحتلال العثماني للعراق في العام 1534 وحتى هزيمتها في الحرب العالمية الأولى ودخول القوات البريطانية العراق وأحتلالها بغداد في آذار 1917 وما نتج من هذا الإحتلال من تأسيس مشوه ومفخخ للدولة العراقية الحديثة كان من نتائجه إشعال ثورة العشرين في حزيران 1920 التي أرغمت البريطانين في إعادة التفكير في تصور شكل السيطرة على العراق من أنتداب سان ريمو في نيسان 1920 إلى عقد وإبرام تحالفات وأتفاقيات مع حكومات منتخبة هزيلة تلبي مطامحها الإستعمارية كما حصل في معاهدة 1922 في عهد رئيس الوزراء العراقي عبدالرحمن النقيب ومعاهدة 1930 في عهد حكومة نوري السعيد .
هذه كانت الأجواء التي نشأ فيها الزعيم عبد الكريم قاسم وتنقل فيها بين وظيفة المعلم التربوي في قضاء الشامية التابع للواء الديوانية في عام 1931 وبين الرجل العسكري خريج الكلية العسكرية ( 1932 – 1934) خريج كتيبة المشاة برتبة ملازم ثاني تلك كانت أول خطواته في السلك الذي قاده فيما بعد إلى واحدة من أهم أحداث العراق في العصر الحديث
بدأت حياة الزعيم قاسم العسكرية في آيار 1935 عند مشاركته في قمع التمرد العشائري في الفرات الأوسط ثم في سنة 1945 ساهم الزعيم قاسم فيما عرف بحرب البارزاني في كوردستان العراق ليتوج حياته العسكرية في حرب فلسطين ما بين أيار مايو 1948 وحزيران 1949 والتي حصل فيها على أحد أوسمة الحرب لبطولته وبسالته في التصدي للعصابات الإسرائيلية في قاطع عملياته في منطقة جنين وفي مايو 1955 حصل على رتبة عميد ( الزعيم ) فعين على إثرها آمر للواء المشاة العشرين .
كانت أولى ردود اللأفعال للزعيم قاسم ومجموعة الضباط العائدين من فلسطين هو تشكيل ما عرف ب ( تنظيم الضباط الأحرار ) على غرار التنظيم في مصر ثم قام الزعيم بتشكيل خلية للتنظيم عرفت بأسم تنظيم المنصورية وفي سنة 1952 تم خلية الزعيم وخلية العقيد محي عبد الحميد وناجي طالب ليصبح الزعيم عبد الكريم قاسم قائداً لتنظيم الضباط الأحرار .
أستغل تنظيم الضباط الأحرار ما كانت تمر به البلاد من مخاض بسبب الأتحاد الهاشمي وماكان يعانيه هذا الأتحاد من تعرض المملكة الأردنية لتهديدات أسرائيلية ومن رفض محلي وشعبي لحلف بغداد وما كانت تعانيه البلاد من أزمات سياسية وأقتصادية ليقوموا بتفيذ الثورة صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 بعد تأجيل قرار الثورة لأكثر من مرة بسبب ظروف كثيرة .
لقد أُعتبرت الثورة في حينها صفعة مدوية بوجه الأستعمار البريطاني في العراق ومنطقة الشرق الأوسط وأفشلت كل مخططاته بالمنطقة من أحلاف ومعاهدات وأتفاقيات أقتصادية وسياسية أطاحة بها الثورة خلال فترة قليلة من عمر الثورة وكان من أهم تلك الأنجازات التي قامت بها ثورة تموز :
1- الخروج من حلف بغداد الأستعماري .
2- تحرير العملة الوطنية العراقية من أرتباطها بالجنيه الأسترليني .
3- الأهتمام بشريحة الفقراء والمعدمين من خلال توزيع قطع الأراضي وتمليكهم الدور الحديثة بعد أن كانوا يسكنون بيوت الطين والصرائف في مدن حديثة مثل ( مدينة الثورة ) شرق بغداد .
4- أصدار قانون الأصلاح الزراعي الذي تم بموجبه القضاء على النظام الأقطاعي وتوزيع الأراضي على الفلاحين والفقراء .
5- البدء في تنفيذ المشاريع الأروائية مثل مشروع دوكان ودربندخان والثرثار .
6- الأهتمام في الجانب التعليمي وبدأ العمل لبناء مدارس للبنات في كل مدينة عراقية .
7- سن القوانين لضمان حقوق المرأة وفي عهده تم أستوزار أول امرأة في الشرق الأوسط لتكون وزيرة وهي الوزيرة نزيهة الدليمي وزيرة البلديات .
8- شهد الجانب الصحي طفرات سريعة في عهد الزعيم قاسم حيث تم العمل على تشيد مستشفى جمهوري في كل محافظة عراقية على غرار المستشفى الجمهوري في بغداد أو ما عرف فيما بعد ( مستشفى مدينة الطب ) والتي تعتبر أكبر مؤسسة ومجمع طبي بالعراق .
9- في المجال النفطي أصدر القانون رقم 80 الذي حدد بموجبه الاستكشافات المستقبلية لاستثمارات شركة نفط العراق البريطانية لحقول النفط وبذلك يعتبر عبدالكريم قاسم هو المؤمم الحقيقي للنفط في العراق باصداره قرار 80 الذي يمنع الشركات من الحفر و التنقيب والإكتفاء مما لديهم من آبار فيضطرون المغادرة بعد نفاذها وهذا ما حصل في 1972 وقد طلب القنصل البريطاني منه التنازل عن هذا القرار مقابل زيادة حصة العراق الى 90% من النفط الذي تستخرجه الشركات الإحتكارية فرفض عبدالكريم قاسم فأخبره القنصل بأن الحكومة اعراقية ترفض التفاهم مع بريطانيا لذا ستستبدلها بمن يتفاهم معها ولما سأله الزعيم عبدالكرم قاسم هل هذا يعتبر تهديد رد عليه القنصل بأن هذا ليس تهديدا بل هذا هو الواقع فكان تشريع هذا القانون (مع مسألة الكويت) هو السبب الرئيسي لتكالب المستعمرين وأذنابهم لقتل الزعيم ووأد حركة التحرر الوطني في العراق والمنطقة.
10- عقد الاتفاقية الاولية لبناء ملعب الشعب الدولي في عهده نتيجة أتفاق بين الحكومة العراقية وشركة كولبنكيان البرتغالية التي صاحبها ومؤسسها ) كالوست سركيس كولبنكيان (الأرمني العراقي الأصل المولود في بغداد التي مقرها في لشبونة عاصمة البرتغال ويعد الملعب الرئيسي في العراق ويتسع إلى 50 ألف متفرج ومن الجدير بالذكر أن بناء الملعب وافتتاحه تم في عهد عبد الرحمن عارف.
11-أنشاء العديد من المصانع والمنشآت والمناطق الصناعية في عموم أنحاء العراق كان ابرزها منشآت الإسكندرية ومصانع الألبان في أبو غريب .
كل تلك الأنجازات ومحبة العراقين للزعيم قاسم جعلت من الزعيم قاسم والعراق بجمهوريته الوليدة التي كان ينادي بها قاسم لتكون جمهورية عراقية خالدة في أولويات أعداء العراق والشعب العراقي فكانوا يتصيدون الفرص للأيقاع بهذه التجربة الفريدة والمميزة في المنطقة العربية فحدثت مؤامرة الشواف في العام 1959 وكذلك مؤامرة عبدالسلام عارف بعد أقصائه وثم مؤامرة ناظم الطبقجلي وماكان يلاقيه المتآمرون من دعم مالي وعسكري وأعلامي من مصر بقيادة عبد الناصر لكن كل ذلك لم يثني الزعيم قاسم في الأستمرار في مشروعه الوطني في تحقيق حلم العراقين في جمهورية عراقية خالدة فتحية أكبار وتقدير لروح الزعيم عبدالكريم قاسم ورفاقه من الضباط الأحرار ومن وقف معه في تنفيذ مشروعه الوطني وتظل ثورة 14 تموز وزعيمها المرحوم الشهيد عبد الكريم قاسم نبراس من نور في مسيرة العراق الحر الوطني والحضاري .
مقالات اخرى للكاتب