لوعة السلطة أكبر من لذة الإستمتاع بها؛ تكمن في كيفية الحفاظ عليها ردحاً من الزمن, وعذابات فقدها, تجعل للحاجة مئة إختراع, غير إنّ أصحاب تلك الإختراعات, يقتربون من المتسلط الفعلي بنسب مختلف, لكنّهم ليسوا الحاكمين, فالحاكم لا يضمّن في شروط التفاوض, شرطاً يقضي بتنازله أو تركه للسلطة..قد تحتوي الطاولة على ثروات الدولة, أو حتى أمنها القومي, إلا الكرسي, لن يخوض به الحاكم "لو نازعني عليه هذا لقتلته"..!
تسير رياح التغيير, بعكس إرادة سفن الحكام في أحيانٍ كثيرة؛ سنة السقوط حتمية, ومواكبة لكل حركات السياسة في عصور ما قبل إعتماد الديمقراطية, أو حتى في أماكن لم تألفها, ولا تحبذ التعامل بها؛ تلك الأماكن تعيش في زمن القبيلة بشكلها الحداثوي..يتعسّر على النظام وحده ضمان حصول التبادل السلمي والتغيير المنطقي, المبني على مبدأ النجاح والفشل, والثواب والعقاب.
أهل الحل والعقد, حملوا مشعل التغيير, فلم يعد الأمر يخضع لمساومات "اللحظة الأخيرة" ..إصرار الداخل, كان شجاعاً, ومبدئياً: "لا تفاوض حول الثالثة" والخارج, له تقيماته التي ترجمت عبر إشارات أرسلها سلفاً, فقبل أكثر من عام زار السيد المالكي البيت الأبيض, زيارة أحدثت جدلاً كبيراً داخل أروقة الكونجرس من جهة, وفي طبيعة تعامل الإدارة الأمريكية مع الضيف من جهةٍ أخرى..في إيران, كان المشهد مقارباً لما حصل في النصف الآخر من الكرة الأرضية, موقع مقرّب من المؤسسة الأقوى في طهران, يوجّه نقداً لاذعاً لرئيس الحكومة العراقية, مستبعداً حصوله على فترة ثالثة, نتيجة إخفاقات الملف السياسي والأمني.
توافق واضح, ورسائل صريحة, بإمكانية تخلي أقوى الداعمين لشخص رئيس الوزراء السابق, والذي يعد جزء المشكلة, بحسب قطاعات سياسية واسعة في الداخل العراقي. الصورة غير مبهمة هنا, في العراق, أغلبية واسعة تدخل البرلمان الجديد, تحت يافطة التغيير, غير إن الساعات الدستورية تنقضي حاملة معها هموم العراقيين, فإما إستنساخ المزيد منها, أو وضعها على طريق الأمل بجديدٍ ما, وليس أفضل من تغيير الأشخاص, كرسالة كاشفة لنوايا صادقة بتغيير المناهج..!
يبدو إن القيادات الدينية, والسياسية العراقية تجاوزت اللحظة العاطفية التي يقبع بها العديد, وتجلى في مواقفها منطق الطب, وحكمته في درء الأخطار بدواءٍ مر, لكنه بفائدة عظيمة..تشخيص الحل, جزء العلاج الأهم, والتمسك به يمثل الحل نفسه, فإن حدث, ستكون السكة مهيئة لسير العربة.
ليس للخارج, رؤية إيجابية شاملة أو تقييم منسجم مع الهم العراقي, بيد إنّ التمسك بالحل, الذي توصلت إليه القوى الرافضة للولاية الثالثة, أجبر الأقليم والعالم, على تفهّم المأساة العراقية, وإرادة الحياة المختزلة في العزم على إنهاء الأزمة وخنق القصبات التي تزودها بالأوكسجين.
لحظات أخيرة تسير ببطئ, تحفها المصاعب, والمجهول, لم تنته إلا بإعلان له عدة مداليل, بعنوان بارز لا يقبل التأويل: الرجل الثاني في حزب الدعوة, والرئيس الرسمي لكتلة الدعوة (في المفوضية) وثاني أركان دولة القانون, مرشحاً لرئاسة الوزراء, وإعتراض شديد من قبل السيد المالكي!..
لم يستسلم الرئيس بسهولة, جمع كل قواه المنهارة, ليخرج بثمانٍ وعشرين مقعد فقط!..في الجهة الأخرى, نشر الحزب, رسالة المرجعية المؤرخة في الحادي عشر من رمضان, والمتضمنة لرفض ترشيح السيد المالكي..الحزب يختلف داخلياً, ويقف الوقفة الرسمية الأولى ضد أمينه العام. توالت التهديدات, وقدّم المالكي شكواه, متهماً أخوته الأشقاء بالدعشنة تارة, والخيانة تارة أخرى.
المشهد أعقد مما يتصوره السيد الرئيس, فبيانات الترحيب تترى من شرق الأرض وغربها, مرحبة بالقادم الجديد, ومعربة عن نيتها بالتعاون الكامل مع الحكومة الجديد, سيما في موضوعة الإرهاب..إيران كانت على رأس قائمة المهنئين, سبقتها أمريكا, غير إنّ البيت الأبيض, سار بمنوال موازٍ لكلمات الحاج (أبا إسراء)..في العراق, يخطب المالكي, وبعد أقل من ساعة يرد عليه البيت الأبيض ببيان لا يخلو من لهجة تهديد, وكانت الكلمة الفصل للتهديد المعلن الذي نطق يه الوزير الأمريكي (جون كيري) من أستراليا "حيث حذر المالكي من زج القوات المسلحة في التدخل بعملية التداول السلمي للسلطة" بعدها بساعات قليلة, جاء تحذير المتحدثة بإسم الخارجية الأمريكية ماري هارف للمالكي "من أي محاولات إكراه أو تلاعب" في عملية تسليم السلطة. وأكدت هارف: "إننا نرفض أي محاولة عبر القانون أو بطرق أخرى لحل الأزمة بالأكراه أو عبر التلاعب بالعملية الدستورية أو القضائية..هناك عملية دستورية جارية حالياً ونحن ندعمها".
ليس بالضروة الإنصياع لتهديد الخارج, فكان بالأمكان القبول بمقترحات الداخل, سيما إن الحزب الذي ينتمي إليه السيد المالكي, مثّل أحد محاور التغيير المهمة..قد يسلب التوفيق من المرء بعض الأحيان؛ تهديد الحسناء الأمريكية, لم يمضِ عليه يوماً كاملاً.."ترقبوا بياناً هاماً للسيد رئيس الوزراء نوري كامل المالكي, يسحب ترشيحه فيه لصالح العبادي,سيبث في الساعة الحادية عشر والربع" هذا العاجل من على قناة العراقية..!
مقالات اخرى للكاتب