قبل مجيْ الإسلام كان العرب قوما بسطاء لا يَحسنون سوى مزاولة التجارة وركوب الأبل ولا تَحكمهم سوى الأعراف والتقاليد القبلية القائمة على وأد البنات وشرب الخمر والتبّرج والعصبية والغزو والسلب والنهب. ثلاث عوامل رئيسية لعبت دورا محوريا في نقل العرب من تلك الحياة الآسنة الشريرة الى دنيا القانون والنظام وجعلتهم من أفضل الأمم مكانة ورتبة.
أول هذه العوامل, وجود محمد العظيم (ص), البشير النذير والمنقذ الرباني الذي تَمكّن من نقل هؤلاء القوم من ظلمات الجاهلية الى نور الهداية والإيمان فأصبحوا تحت قيادته أمة عظيمة استطاعت أن تَصلْ ظِلالها الى بلاد الأندلس غربا وسومطرة شرقا, محمد العظيم (ص) الشخص الذي جَسّد معاني القيادة بكل أشكالِها, فكان رجلا من الطراز الأول لم تنجب البشرية لحد هذه الساعة رجلا يضاهيه في العزيمة والتدبُّر والإقدام والإيثار والبطولة, ولم يعرف التاريخ قائدا شبيها له استطاع أن يٌحوِّل قوما رعاع أجلاف الى صنّاع حضارة ومدنية عظيمة في فترة زمنية قصيرة, انّه الرسول الأسطورة الذي إعتلى أعلى رتبة في سلّم المجد والشرف, لم ولن يستطيع أحد أن ينافسه على هذه المكانة والمنزلة, لأنّ الله تعالى أراد ذلك حيث قال في كتابه الكريم (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ), فقد كان أسوة حسنة وعلى خلق عظيم ورائد للعلم والحلم والصبر والزهد والعدل والتواضع والعفو والجود والشجاعة وصاحب النسب العريق الطاهر الذي لم يدخله شيْ من سفاح الجاهلية, الرسول الذي إستطاع أن يشق ظلام النفوس وينقل الاعراب المتعجرفين من دائرة السفالة والانحطاط الى عالم المعرفة والتحضّر وكما وصفت ذلك فاطمة الزهراء (ع) في خطبتها المشهورة حيث قالت (وكنتم على شفا حفرة من النار، أذله خاسئين فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمد صلى الله عليه وآله).
العامل الثاني, القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل, وكما قال الله تعالى ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ), القرآن الذي نظّم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والروحية وبوّب الواجبات والحقوق الفردية وأعطى الأمتيازات لمن يلتزم والردع لمن يخالف استنادا الى مبدأ الثواب والعقاب, تعاليم القرآن الكريم التي قضت على النزاعات البدوية والتعصّب القبلي والفوارق الطبقية والاجتماعية وعاملت الجميع على أساس المستوى الإيماني للفرد ودرجة عطائه للمجتمع, أحكام القرآن الكريم التي قيًّمت الناس طِبقا لدرجة تقواهم وعطائهم وليس إستنادا الى نوع جنسهم ولون بشرتهم, القرآن الذي عجز فطاحل البلغاء على مرّ القرون أن يأتوا بسورة مثله, وهذا دليل قاطع على سماوية هذا الكتاب وجدارته بأن يكون دستورا ناجحا وفعالا لبناء الأمم والحضارات, القرآن الكريم الذي شٌدّت اليه النفوس وإستأنست بسماعه المخلوقات بما فيهم فصيلة الجن عندما قالوا ( إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً).
العامل الثالث, المسلمون الأوائل عملوا بروح الفريق الواحد ودافعوا بعقيدة واحدة عن القيم الجديدة فاستطاعوا انتاج نظاما اسطوريا عابرا للقوميات والموروث المناطقي والبعد الطائفي, فقد جسّدوا صورة الاسلام الحقيقية وتفاعلوا بصدق مع مباديْ وتعاليم الدين الجديد والتفوا التفافا مُحكما حول قيادتهم بشكل يصعب إختراقهم من قِبل الاعداء, توجّه المسلمون الى طلب العلم والمعرفة كفريضة وكجزء مهم من حياتهم اليومية, إنصهروا وذابوا روحيا في بوتقة الاسلام وحملوا خلق الانبياء الذي كان سِر نجاح نهضتهم التاريخية, وإستجابوا وطبّقوا مبدأ العدل الالهي في الارض, العدل الذي هو أساس تطوّر وبقاء الأمم والشعوب ومفتاح نهضتها وديمومتها, التزموا بجميع بنود القرآن الكريم وتعاملوا مع مبادئه بقوة وروحية عالية وكما قال الله تعالى في كتابه الكريم (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّة), تفاعلوا مع قيم الدستور الجديد بصدق وعمق وجدّية فكان ضميرهم الايماني هو الرقيب الدائم والمستمر لافعالهم وسلوكياتهم.
نهوض المسلمين من جديد يحتاج الى عدة عوامل أولها هو تجاوز حالة الانكسار النفسي التي صنعتها أحداث القرون الماضية والشروع فورا في اعادة بناء قواعد الثقة بالنفس وتعريف المسلمين بأنهم أمّة الاخلاق والعقيدة والتسامح والعطاء والسلم والبناء وليس أمّة الحروب والدماء والهزائم, ثانيا, التمسك بالقرآن الكريم كدستور سماوي دائم وقادر على ادارة الحياة في مختلف الازمنة, مع التشديد على ضرورة إصلاح بعض التفاسير القرآنية وكذلك الخطاب الديني المتطرف الناتج عن بعض الروايات المدسوسة التي لعبت دورا محوريا في تمزيق أمّة القرآن وتدمير قدراتها الذاتية وساعدت على نشوء عشرات الحروب المذهبية بين أبناء الدين الواحد, الحروب التي نسفت إمكانات المسلمين المادية والمعنوية ولا زالت حرائقها قائمة لحد هذه اللحظة, هذا الاصلاح يأتي عن طريق التعاون بين المؤسسات الاسلامية الرائدة لبلورة اتفاق يساعد على توحيد المناهج الدينية وازالة المفخخ منها مع الشروع في لجم الاصوات الفاسدة التي عملت على تدمير علاقات المسلمين وتأجيج روح العداء والبغض بينهم, ثالثا توجيه قدرات المجتمع الاسلامي نحو البحث العلمي الذي يتناسب مع روح العصر وحالة النهوض والتطورالتي تعيشها الانسانية, على سبيل المثال, اسبانيا لوحدها تساهم بانتاج 1.48% من الكتب العلمية على مستوى العالم, بينما العالم الاسلامي يساهم 1.17% فقط من المنتوج العلمي وينتج ثلاث أضعاف كتب دينية, تصوّر كم من الوقت والجهد والمال صٌرِف على كتب لربما نحن بحاجة الى الثلث منها فقط ويمكن تحويل باقي الجهد الى انتاج كتب علمية وثقافية تٌساهم في تطوّر مجتمعاتنا. بالإضافة لابد من زيادة حجم الانفاق الحكومي لدعم المؤسسات العلمية المختصة لتأهيل المتعلمين والعلماء وتشجيع البحوث العلمية والابتكارات والاختراعات بالشكل الذي يوزاي انفاق الدول المتقدمة الأخرى, ينفق العالم الاسلامي 0.2% فقط من الناتج القومي الإجمالي على البحث العلمي بينما الدول الغربية بما فيها اسرائيل تنفق 5% في مجال البحوث والاختراعات العلمية, هذا الوضع أنتج ركودا علميا اسلاميا ألقى بظلاله على نوعية وعدد الكادر المتعلم الذي تنتجه المنظومة العلمية الإسلامية, حيث أنّ ثمانية مسلمين فقط قد حصلوا على جائزة نوبل خلال القرن الماضي, بينما عدد اليهود الحائزين على جائزة نوبل يصل الى أكثر من 167 عالم, وهذا دليل على عدم اهتمام حكوماتنا بالجانب العلمي والمعرفي. لقد استطاع العرب البسطاء قبل أكثر من 1400 سنة أن يصنعوا التاريخ عندما امتلكوا القيادة الحكيمة والدستور الكامل والتفاعل الحقيقي لبناء أمة, فهل مشكلتنا اليوم هي عدم امتلاك القيادة النوعية القادرة على النهوض بالأمّة الى مراحل متقدمة؟ أم هو الانحطاط الفكري والروحي للفرد المسلم ممّا جعله غير قادر على التفاعل مع ارثه الأخلاقي والتاريخي لصناعة الحياة؟.
مقالات اخرى للكاتب