هل ثمّة حل للمأزق العراقي الحالي؟
هكذا يسأل العراقي وهو ينظر لمشكلة العنف التي لفّت عراقنا من أحد عشر عاماً.
لفهم هذا المأزق، علينا أولاً معرفة ما المشكلة، ما أسبابها، حتى يتسنّى لنا مناقشة الحلول.
الأمر يشبه كثيراً المشكلة الثقافية. ما الثقافة؟ كيف يتسنّى لنا معرفة المثقف؟ وهل ثمّة تعريف محدّد له؟
في كتابه "مأزق الثقافة The Predicament of Culture"، يشرح لنا الباحث الامريكي جيمس كلفورد الورطة المعرفية التي وضعتنا فيها الإثنوغرافيا، ذلك العلم الذي يختص بدراسة مجاميع البشر وخلفياتهم الإثنية والقومية.
كل الدراسات المعرفية ناقصة ومنحازة لأنها لا تخلو من هامش إثنوغرافي. هذا الهامش الذي يتخيّل نفسه مقياساً للمعرفة. تُدرَس مثلاً المشكلة الثقافية في بلدان الشرق الاوسط وفق المنهج الغربي، المنهج الذي وضعه العنصر الابيض الاوربي إنطلاقاً من ثقافته ومشاكله وهمومه. فالحلول التي تُقدّمها العلوم برمّتها هي حلول "إثنية" لمشاكل عالمية. فالكاتب والباحث الذي يسعى لفهم ظاهرةٍ ما في بقعةٍ ما يستند الى إرثه "الإثنوغرافي" كمقياس لفهم الاشياء، أي الى لغته ومفاهيمه وثقافته الخاصة. لا يستطيع أحدنا التخلّص من هذه الورطة التي يسمّيها كلفورد "الذاتية الإثنوغرافية Ethnographic Subjectivity"، حيث ننطلق من ذاتنا لنفهم "الآخر" وليس من الموضوع المُجرَّد. إننا ندرس الظواهر ونعطي حلولاً لكنها حلول "إثنية" غير موضوعية، منحازة للعرق السائد دائماً.
وعليه، الثقافة هي ما يراها العنصر الابيض الاوربي دائماً لانه هو مَن وضع اصولها ومبادئها وهو مَن له الحق في تقييم ثقافات الآخرين إنطلاقاً من رؤيته "الإثنية" الخاصة.
هذه رؤية ناقصة صنعت ورطة ثقافية او مأزق ثقافي حسب وجهة نظر جيمس كلفورد.
يبدو إننا نعاني نفس هذه الورطة في العراق، فالطائفية تقارب الإثنية بوصفها رؤية ضيّقة تحاول تفسير الأشياء وفق نظرة الطائفة، لا كحقيقة مُجرَّدة.
ليست مشكلة العراق مشكلة سياسية فقط، بل صارت إنقساماً إجتماعياً حادّاً بين ثلاث مكوّنات رئيسية، المكوّن العربي الشيعي والمكوّن العربي السني والمكوّن الكردي.
يحاول الجميع ايجاد حلول لهذه المشكلة الاّ إن أغلب هذه الحلول حلول ناقصة لأنها لا تخفي هامشاً طائفياً في فحواها. فالنخبة الشيعية مثلاً ترى الحل بقبول المجتمع السنّي "للمعادلة السياسية الجديدة" التي فرضها واقع ما بعد صدام، وهو يعني القبول بالهيمنة الشيعية التي تنتجها صناديق الإقتراع كل اربع سنوات إنتخابية. سيبقى الصندوق "شيعياً" طالما الشيعة أكثرية. بإختصار هم مع الديمقراطية ما دامت الاخيرة معهم.
إما النخبة السنّية فهي منقسمة الى قسمين، الأولى ذات نظرة راديكالية لا تقبل أن تكون محكومة بعد أن كانت حاكمة لسنوات طويلة واتجهت للعنف في محاولة لإسترداد "حقّها" المسلوب. والثانية آمنت بالعمل السياسي ولم تعترض على النظام الطائفي لأنها شريكة في اللعبة المحاصصاتية. مشكلتها تكمن في تقسيم المناصب والمسؤوليات بالنصف، أي 50٪ للسنّة ومثلها للشيعة. بإختصار أيضاً هي مع الديمقراطية لكنها ليست مع نتائجها.
الكرد خارج حسابات الطوائف لكنهم "إثنيون" حسب مفهوم كلفورد، ينطلقون من مصلحتهم القومية كأمة مستقلة داخل وطن مهدّد بالإنهيار. هم جزء اساسي من النظام الطائفي العراقي وليس لديهم إعتراض على هذا الشكل الديمقراطي المُشوَّه الاّ حين يخالف إرادات إقليمهم أو حلمهم في الدولة المستقلة. هم مع الديمقراطية طالما الإقليم بخير.
هذا هو المأزق العراقي، وكل حلوله تنطلق من "ذاتية طائفية" إن سمح لنا كلفورد بتحوير "ذاتيته الإثنوغرافية". الحلول التي تراها النخبة السياسية العراقية هي حلول "إثنية" لمشكلة وطنية، لهذا هي ناقصة دائماً وتصنع المآزق.
ثمّة حل واحد فقط لمأزقنا في العراق وهو إعادة بناء نظام مدني جديد يستبدل في سياسته "الطائفة" بالوطن. فهل سيسمح "الإثنيون" بهذا؟
مقالات اخرى للكاتب