يعاني العراق منذ بداية تسعينيات القرن الماضي من حمى الهجرة إلى الغرب ، حتى تحول هذا الهاجس إلى طموح اغلب شبابنا اليوم ، سعيا منهم للهروب من الواقع المزري الذي يعيشه العراق وعلى جميع الأصعدة ، فبعد سلسة الحروب العبثية الطويلة التي خاضها هذا الشعب مرغما ، ومحنة الحصار الاقتصادي وظلم النظام الحاكم آنذاك ودمويته ، تنفس العراقيون الصعداء بعد ما حدث في التاسع من نيسان 2003 ، إلا انه سرعان ما ساءت الأمور بفعل الفوضى التي خلفها الاحتلال وطبيعة النظام السياسي الهش الذي نتج عن هذه الفوضى ، فعاث الإرهاب فسادا في البلاد وازدادت طوابير العاطلين عن العمل بفعل الفساد الإداري وريعية الدولة التي ظلت تعتاش على واردات النفط فقط وأهملت قطاعي الصناعة والزراعة ، والغياب ألقسري الذي شهده الاستثمار بفعل الوضع الأمني الخطير الذي تعيشه البلاد ، فخلف هذا الوضع السيئ تصاعدت في وتيرة طلب الهجرة وخصوصا لدى الشباب حتى تحول هذا الموضوع إلى ظاهرة اجتماعية تنذر بالخطر الكبير ، فالمدن التركية الآن تغص بهؤلاء الشباب الذين جعلوا من هذا البلد ممرا لهم للولوج إلى الدول الأوربية ، وتحولت إلى قاعدة لتقديم أوراقهم طلبا للجوء الإنساني ، العراق الآن يعيش ثنائية غريبة ومأساوية تتطلب تحرك سريع من أصحاب القرار وعلى جميع المستويات ، شباب ينزفون دما وهم يقارعون الإرهاب دفاعا عن بلدهم ووجوده ، وآخرون أعطوا ظهورهم له وفضلوا الهرب والغربة التي يعتقدون إن وطأتها عليهم ستكون أهون بكثير من وطأة الموت والخوف والبطالة التي تلاحقهم في هذا الوطن الجريح ، هنالك مخطط شيطاني خطط له بإتقان لاستهداف هذه الشريحة الفعالة والمنتجة في أي مجتمع أنساني ، وان شبابنا الذي يرحل عنا ألان من الصعب تعويضهم أو إعادتهم إلى أحضان الوطن مرة أخرى ، فالأسباب الرئيسية التي تجعلهم يعيدون النظر بقرارهم هذا قد تلاشت ، بغياب الحلول الآنية والسريعة للمشاكل التي يعانيها العراق الآن ، إضافة إلى طبيعة الأفكار التي يحملها هذا الجيل من الشباب والتي تقترب كثيرا من طبيعة تلك المجتمعات الغربية التي سحرهم ترفها وجمالها فقرروا الهجرة إليها ، بفعل الثورة الإعلامية التي يشهدها عالمنا اليوم ، وظاهرة تلاقح الثقافات والعادات الاجتماعية التي نتجت عن هذا التلاقح ... في عام 1965 ميلادي ، طرح الروائي السوداني الطيب الصالح روايته الكبيرة ( موسم الهجرة إلى الشمال ) ، وهي أول نتاج أدبي عربي يصور حالة الصراع الثقافي والاجتماعي بين الشرق والغرب ، ويتناول موضوع رغبة واندفاع الشباب العربي وحلمه بالهجرة إلى الغرب ، وكيف إن بطل روايته لم يستطيع التأقلم اجتماعيا مع حضارة الغرب بالرغم من امتلاكه الكثير من القدرات الذهنية والعلمية التي أهلته أن يكون أستاذا في إحدى جامعات بريطانيا ، لكن كانت هنالك حلقة مفقودة بينه وبين هذا المجتمع الغربي الغريب عنه بكثير من الثوابت والقيم الاجتماعية والاعتبارية ، مما اضطره للعودة مرة أخرى إلى بلده الأم ... إن قرار العودة إلى الوطن قد اتخذه بطل رواية الطيب الصالح كونه نشأ في بلد ذا مجتمع تقليدي منغلق تطغى عليه عادات وأعراف الشرق بصورة كبيرة ، ولا يعاني من ظاهرة الموت المجاني بفعل الإرهاب ، ولا ينظر بأم عينه كيف يسرق بلده ومستقبله في وضح النهار دون رادع او حساب، فكيف بشبابنا وهم واقعون تحت تأثيرات العولمة الثقافية والدعائية ، ويعانون من الهزيمة النفسية والإحباط ، وقد فقدوا الأمل بمستقبلهم ... اعتقد إن الموضوع بحاجة إلى وقفة وتأمل وقرارات جادة لوقف هذا النزيف المستمر لأبنائنا
مقالات اخرى للكاتب