جاء في الأثر، أن جماعة من أشراف قريش فيهم من ينتسب إلى هاشم وأمية وعدي وتيم... جلسوا يتفاخرون بأنسابهم، وكان بينهم زياد ابن ابيه، فقال متذمراً: كفاكم مفاخرة بأنسابكم إنما المرء بنفسه لا بنسبه، فقال له احدهم شامتاً: محق أنت يا زياد لأنك لم تذق حلاوة الأجداد، في إشارة إلى مجهولية نسب ابن أبيه. لا تبلغ الحكاية هذه مدلولها إلا إذا نظرنا لحالنا اليوم، حيث لم يعد يُعرف كثير ممن اشتغلوا في السياسة والفكر والتجارة إلا متبوعين بلقب عشيرتهم، مدينتهم، معتقدهم، مفرّغا بذلك من معناه الشخصي، من قيمته وجهده حتى وإن بلغ أعلى المراتب العلمية.
تكتب الروائية والمترجمة الكبيرة لطفية الدليمي في أحد (قناديلها) تقول بأنها لا تحمل نسباً تعترف به: "لا أعترف بالعشيرة والطائفة
والأيديولوجيات، لا أعترف بها جميعا، لا أنتمي لطائفة ولا حزب ولا عشيرة، عشيرتي الكلمات والزمن والمحبّة، طائفتي العشاق والموسيقى، حزبي البساتين والأفق والمزن المباغتة، كبّلني أبي بلقب أكرهه..." بمثل ذلك الشعور أحسست وأنا أقرأ اليافطة السوداء التي أبَّن فيها أحدُهم أربعينية فنان الشعب، الكبير فؤاد سالم، اهتزّت صورته الجميلة في الروح، حين قرأت اليافطة وهي تفصح عن اسمه الحقيقي(فالح حسن ال.....ي) حتى بدا لي الاسم الثاني لا علاقة له بفؤاد سالم الفنان والمغني الشيوعي والمناضل ضد الدكتاتورية، عاشق النخل وشط العرب، لقد قزّمت اليافطة تلك صورة الفنان الكبيرة.
حتى الثمانينات من القرن الماضي وعلى حائط مقبرة النصارى بالمطيحة كنت أقرأ الجملة التي تقول:( لا طائفية ولا عشائرية في
عراق البعث بعد اليوم) الجملة التي لم يعمل بمنطوقها شيءٌ في سياسة النظام خلال فترة تسلطه الماضية. ظلت العبارة هذه تشير إلى خلاف مضمونها حتى اليوم، حيث ينشر البعض في مواقع الفيسبوك وسواها من وسائل النشر السريعة منشورات تعرّف به، ضمن حملة الترشيح والانتخابات البرلمانية القادمة، ولا أجد بينهم من لا يتبع اسمه بلقب لعشيرته إلا ما ندر، أما هو، شخصه، قيمته العلمية، الاجتماعية أو السياسية، أو غيرها فلا وجود لها، وهذا ما نلمسه في كل معركة انتخابية. فقد ظل لقب المرشح يتقدم مشروعه وبرنامجه، إن وجدنا بينهم من يمتلك مشروعا أو برنامجاً واضحاً، وظل الهدف من إلحاق اللقب بالاسم العلامة الأكثر بروزاً، لأنه مقترن بعدد الاصوات التي ستجلبها أصوات المقربين، التابعين له، ممن لا يعنيهم برنامجه أكثر مما يعنيهم جلوسه على الكرسي الهزاز ذاك. مرشح بلقب عشائري وبلا برنامج وناخب أعمى، تدفعه انتماءاتٌ عِرقيةٌ، طائفيةٌ لا علاقة لها بالسياسة وبمستقبل البلاد . ياللمهزلة.
يحمل العراقيون في الوسط والجنوب صورة مشوهة للقب التكريتي، ولعل صدام حسين كان السبب بذلك، خلال محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم قبل العام 1963 ومن ثم بعد العام 1968، وكان تحسس من لقبه، فتجنبهُ بعد ذلك، مكتفيا باسمه الثنائي، لكن الصورة التكريتية في الذاكرة لم تنس، وظلت محتفظة بصورة القاتل والمجرم حتى بعد سقوطه في ميدان الفردوس. ولم تفلح أية صورة أخرى في زحزحة صورة اللقب، الذي انسحب على المدينة بكاملها إلى اليوم في الوسط والجنوب. ستمضي سنوات وسنوات وسيكون الزمن فاعلا مترددا في تقديم صورة أخرى لكثير من الكتاب والرسامين والمثقفين والسياسيين أيضاً من سكنة المدينة الجميلة تلك، مع يقيننا بأنهم لا يملكون صورة غير صورة الجمال والرقي واللطف والعمل من أجل بناء الدولة.
خلال الحرب الدائرة بين الجيش العراقي والجماعات المسلحة في مدينة الرمادي(القاعدة وداعش) تقدمت الصورة اللقبية للنائب احمد العلواني على الصورة اللقبية لصدام حسين التكريتي، ويجري الحديث عنه مفرّغا من اسمه الأول، ومثله تقدمت صورة المالكي، ولا أقصده كرئيس للوزراء، إنما هو الصورة اللقبية التي تكرست بالضد منه في مناطق النزاع هناك في الرمادي.
لا أعرف بالضبط مَنْ مِنَ النواب الذي دعا لنزع فتيل اللقب من أسماء المرشحين، لكني أذكر أنها كانت امرأة، وهي دعوة جديرة بالأخذ في مرحلة كهذه يتطلع فيها الجميع لبناء دولة مدنية قاعدتها الوطنية مجردة من الدين والمذهب والعرق والطائفة والقبيلة ومعيارها الخبرة والمهنية والحيادية، لكني تأكدت بأن زياد ابن أبيه الذي لم يذكر القرشيون له نسباً، هو الذي استعان به الإمام علي في حكومته فولاه البصرة إضافة إلى ولايته على خراسان، بعد أن عزل ابن عمه عبدالله بين عباس الذي اشتكاه الناس، وهو الذي قال فيه الجاحظ: ما قام أحدٌ في الناس خطيباً وأطال، إلا خشيت عليه الوقوع في اللحن (الخطأ اللغوي) إلا زياد ابن أبيه فإنه كلما أطال أجاد. هو الذي ظل بلا لقب ولا نسب إلى اليوم.
مقالات اخرى للكاتب