كنت قد تطرقت لهذا الموضوع على صفحات "العالم" الغراء قبل عام أو يزيد، و مَرَدُ عودتي إليه اليوم هو أن أحد الأصدقاء الأكراد العراقيين كتب قبل أيام مقالة عاصفة على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" ينتقدني فيها ويهجوني ويصفني بالشوفيني "بالفاء المثلثة المشرقية"، لأن الفاء المثلثة في المغرب العربي تلفظ قافا حميرية أي جيما قاهرية أو كافا فارسية. والشوفيني مصطلح سياسي وفكري أوروبي يُكْثر الكتاب والساسة الأكراد في العراق في أيامنا هذه من استعماله كسُبة وشتيمة ضد مخالفيهم، و هم يفرطون في استخدامه في الصغيرة والكبيرة لدرجة يتهيأ للمرء معها أنه لو قال أن لبن أربيل لا يعجبه، لقالوا عنه شوفيني! والشوفيني صيغةُ نسبةٍ الى المرحوم نيقولا شوفان، الشاب الفرنسي اللطيف والجندي العنيد الذي كان يصر على العودة الى القتال بعد كل مرة يصاب فيها بجرح، إذْ كان ما أنْ يتماثل إلى الشفاء من إصابة أو يكاد حتى يتناول بندقيته ويهرع للقتال في معارك حروب الثورة الفرنسية دفاعاً عن "مجد فرنسا" حتى أصبح اسمه مصطلحاً سياسياً وتاريخياً يعني "الإفراط في النزعة الوطنية والمغالاة في التعصب القومي". وهنا يمكن القول بأن المبدأ البلاغي العربي المسمى " خروج الحال عن مقتضى الظاهر" قد انطبق على هذا الفرنسي الشجاع فبعد أن كان لقبه يعني الشجاعة وحب الأمة والوطن صار يعني التعصب والهبل الأيديولوجي الأقرب إلى السعار.
رغم كثرة المناسبات التي كتبتُ فيها رأيي المؤيد لقيام الدولة الكردية، وتكراري تبني شعار رفيقي الراحل هادي العلوي القائل (في الشرق الأوسط دولتان واحدة واجبة الزوال هي إسرائيل، والأخرى واجبة الوجود هي كردستان) ولكن نفراً من الأصدقاء الأكراد لا يزالون يجهلون هذه الحقائق أو إنهم لا يجهلونها بل يعتبرون هذا الخلاف الصغير والنُتفي حول صيغة جمع لغوي أكبر أهمية وأشد خطورة من الاتفاق على حق الأمة الكردية في تقرير مصيرها، و كاتب هذه السطور هنا لا يزعم فضلا له على أحد بل يبلغ الآخر بموقف شخصي يعتبره غير قابل للتساهل مع إنه قد يتساهل مع تفاصيل و أولوليات تطبيق المساواة الطبقية وتحقيق المجتمع المشاعي السعيد!
قبل مقالة الصديق الكردي من العراق كنت قد شاهدت قبل فترة مداخلة تلفزيونية على اليوتيب لمثقف كردي من سوريا أو لبنان برر فيها رفض الأكراد لصيغة جمعهم هذه وإصرارهم على اعتماد صيغة "كُرد" أو " كورد" بالقول أنهم لا يرتاحون لها لأنها تشبههم بصيغة الأعراب غير المحترمة كثيرا. سأبدأ أولا مع الصديق الكردي الشامي فأقول إن العرب عرب والأعراب أعراب ولا علاقة لهؤلاء بأولئك أي أن لكل كلمة معناها الخاص فالأولون هم العرب ذوو الأنساب الموثقة لديهم وسكنة المدن والحواضر والأكثر استقرارا وتحضرا أما الأعراب فهم البدو ومنتجعو الغيث والكلأ قبل أن يستقروا وهم لا يقلون احتراما عنهم ولكن القرآن هجاهم لأن إيمانهم بالدعوة الإسلامية في بداياتها كان سطحيا وهشا فقال عنهم ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا بل قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم / الحجرات 14 ) وهذه الآية بحسب بعض المفسرين تجيز أن يقال للكافر والفاسق والعاصي أنت مسلم ولكنك لست مؤمناً. وأغلب العرب كانوا أعرابها أي بدوا قبل أن يستقروا وما تزال هذه الصيرورة المجتمعية مستمرة في بعض جهات العالم العربي حتى يوم الناس هذا وعندنا في العراق ثمة العديد من قبائل البدو الرحل التي استقرت وتمدينت أو تريفت فتغير طابعها المجتمعي.
عودا على بدء، أقول و باختصار شديد، إن صيغة الجمع على زنة " فُعْل" مثل كُرد وتُرك وقُبط صيغة خاطئة لأنها ليست عربية بل الأجنبية و هاكم الدليل من القواميس الفرنسية والإنكليزية :
KURDES
COPTES
TURCS
وتلفظ على التوالي : كُرد ... كُبت "قُبط".. تُرك ...على اعتبار أن سين الجمع في الفرنسية لا تلفظ وهي الصيغ نفسها في الإنكليزية وعدد من اللغات اللاتينية الأخرى.
أما ما يقابلها في اللغة العربية فهي صيغة جمع التكسير الشائعة " أفعال" فنقول : أتراك وأكراد وأقباط وأفغان وألمان وأحباش وألبان (جمع ألباني ولا علاقة لها بلبن أربيل طيب الذكر والمذاق)!
وقد يأتي أحدهم بمثال يظنه مناقضاً لما نقول هو "فُرس" الشائعة كجمع لفارسي، وهنا نقول : إن زنة "أفعال" ستكون أفراس وهي غير شائعة بهذا المعنى كجمع لفارسي لأن القاعدة اللغوية العربية الثابتة ستبعد دائما "ما يُخشى اللبس فيه وضياع أو ختلاط المعاني" حيث يخشى تلابس أفراس جمع فارسي، مع أفراس جمع فَرس فمالوا إلى الأخذ بالاستثناء مع الفارسي وتركوا هذه الزِنة القاعدية للأفراس.
وبعد هذا التوضيح وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف على صوابيته اللغوية فإن أهل الدار أعرف بشؤونها ومن باب أولى أن يقرر أهل اللغة العربية قواعد وسياقات لغتهم وكيف يفردون ويجمعون ويثنون وليس أهل لغة أخرى غيرهم . ترى، هل يسمح لنا أصدقاؤنا الأكراد مثلا في أن نتدخل في لغتهم ونقرر نحن لهم كيف ينبغي أن يجمعوا المفرد؟ أو يستقبلوا الأفعال أو يأمروا؟ بالطبع لا، فَلِمَ يتدخلون في قواعد لغتنا ويجمعون ويطرحون ويزعلون حين نطبق قواعدها كما ينبغي أن نطبقها؟
ما يثير الاستغراب هو صمت العديد من الأساتذة الأكراد المتخصصين في اللغة والأدب العربيين ومنهم أساتذة قديرون ومعروفون وصمت زملائهم من سياسيين لبقين في التحدث في العربية بفصاحة ومكنة بل أن بعضهم أكثر لباقة من المتحدثين العرب بها، صمتهم عن قول هذه الحقيقة التي لا أشك لحظة بأنهم يعرفونها معرفة يقينية والصدع بها على مسامع جماهيرهم أو أقلها على مسامع النخبة القارئة الكاتبة منهم... أم يا ترى أنهم يخشون الاتهام بالشوفينية بدورهم؟
أهمس في آذان أصدقائي الأكراد، من النخبة وحولها، بأن كلمة "كرد" بضم الكاف و أيضا بفتحها، موجودة في المعاجم والقواميس اللغوية العربية القديمة، ولكنها موجودة بمعنيين كلاهما غير محبب أو لطيف ولن أذكرهما هنا لتوفيت الفرصة على "الشوفينيين" العرب وغير العرب وحرمانهم من الاستمتاع بممارسة "شوفينيتهم"!
شكرا للصديق الكردي الذي منحي بنقده الفيسبوكي الفرصة لتوضيح هذه القضية.
مقالات اخرى للكاتب