في يوم الجمعة الموافق 5 / 4 / 2013 صرح رئيس مجلس الوزراء العراقي نوري المالكي في حفل انتخابي لمناصري قائمته (ائتلاف دولة القانون) أقيم في محافظة كربلاء أن حل الأزمة السياسية في العراق لن يكون إلا من خلال الذهاب إلى تشكيل حكومة أغلبية سياسية، وقد كرر هذا القول في مرات عدة قبل وبعد هذا التاريخ، علما أن حكومة الأغلبية السياسية المشار إليها تم التأكيد عليها في نصوص الدستور العراقي لعام 2005، لكن المالكي وشركاءه السياسيين لم يعملوا بها في حكومته الحالية (حكومة الشراكة الوطنية) التي تشكلت باتفاق اربيل المبرم بين القوى الشيعية والسنية والكردية المهيمنة على المشهد السياسي في العراق، كما لم يعمل بها في حكومته السابقة (حكومة الوحدة الوطنية).
وفي كلا الحكومتين فشل المالكي في ترسيخ حكم القانون، وتفعيل دور النصوص الدستورية، ومعالجة الملفات الأساسية التي تشغل بال المواطن العراقي كملفات: الخدمات، ورفع مستوى الدخل للطبقات العراقية الكادحة، والملف الأمني، وملفات الفساد المالي والإداري المتورط فيها كثير من الإفراد في شبكات البيروقراطية المرتبطة بمسؤولين حكوميين رفيعي المستوى بعضهم مقرب من المالكي نفسه، وتدهور العلاقات السياسية الخارجية للعراق مع تركيا وبعض دول الثروة والنفوذ في الخليج العربي، وتشكيك متزايد من الولايات المتحدة بأمانة حليفها العراقي في الوقوف على الحياد أو إلى جانبها في الأزمة السورية المتصاعدة، وتسارع وتيرة التصدع في النسيج العراقي بين السنة والشيعة من جهة وبين حكومة المركز الاتحادية وحكومة الإقليم الكردي، مع تجاهل واضح للمالكي وحلفائه لأهم قاعدة تبنى عليها أي دولة تشبه ظروفها الظرف العراقي ألا وهو العمل على تشكيل تحالف نخبوي عريض يستوعب كافة مكونات الشعب تكون مهمته العمل على تخفيف حدة التوتر والصراع بين المكونات الاجتماعية المتنوعة تمهيدا لترسيخ مبدأ الاحترام المتبادل الذي يقود إلى تحقيق التعايش والسلم الأهلي، فضلا عن فشل القادة السياسيين في بناء الدولة وتأسيس مؤسسات رسمية ومدنية فاعلة.
إن تصريحات المالكي حول تشكيل حكومة الأغلبية السياسية يلفت الانتباه إلى تصريحات سابقة أدلى بها في وقت اشتداد الأزمة مع حلفائه الشيعة (الصدريون) وكتلتي التحالف الكردستاني الكردية والعراقية ذات الأغلبية السنية دعا فيها إلى تبديل نظام الحكم في العراق من برلماني إلى رئاسي لتجاوز أزمة النظام المستفحلة. وتذكر مواقف المالكي هذه بذلك الوصف المثير الذي أطلقه عليه أحد الباحثين العاملين في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى عندما وصفه بأنه "رئيس الوزراء العراقي التائه".. لأن مثل هكذا تصريحات من أرفع مسؤول حكومي عراقي أسهمت أنامله في صياغة الدستور العراقي الحالي يدل بما لا يدع مجالا للشك على عدم وضوح متطلبات العمل الدستوري والمؤسساتي لدى صناع القرار في العراق. وما يزيد الأمر تعقيدا وجود واقع سياسي تم القفز فيه على القانون والدستور مع رغبة واستعداد متزايدين لدى بعض الأطراف السياسية الفاعلة لاستمرار الحال كما هو عليه أو المطالبة بإعادة صياغة النص الدستوري وهيكلة نظام الحكم بما يتلاءم مع رغبة هذا الطرف أو ذاك.
هذا الواقع العراقي يمثل في ابسط الكلمات فوضى عارمة تكتسح نظام الحكم من قمته إلى قاعدته، لكنها ليست فوضى خلاقة، بل هي فوضى هدامة تنذر بالخطر على مستقبل العراق، لأن الفوضى الخلاقة التي جرى تداولها في الأدبيات السياسية الأميركية واشتهر بها وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد، غالبا ما يكون الطرف المستفيد منها مسيطرا عليها، ويعرف إلى أي مدى سيصل بها لتحقيق مصالحه القريبة والمتوسطة والبعيدة، وغالبا ما تكون مناطق إثارتها بعيدة عن الدولة صاحبة المصلحة في خلقها. أما في الحالة العراقية فالفوضى التي يتسبب بها صناع القرار تعم الدولة ذاتها التي يعيشون ويحكمون فيها، ولا يبدو أن أطرافها مسيطرون عليها، بل يتعمدونها لمجرد التنافس والصراع على مناطق السلطة والنفوذ في بلدهم المنهك، حتى كانت مظاهرها بادية على السلوك الداخلي والخارجي للعراق طيلة السنوات العشر المنصرمة. وقد يمكن هذا الصراع من تحكم هذا الطرف أو ذاك ببعض السلطة هنا أو هناك، لكن الجميع سيفشل ويخسر فرصته في بناء دولة ديمقراطية فاعلة، فسلوك القادة السياسيين على اختلاف مشاربهم لا يساعد على قيادة مرحلة التحول نحو الديمقراطية، فمثل هذا التحول يحتاج إلى بذل الجهد والانتباه الكافي في خطوات محسوبة بدقة تركز في بناء نظام صالح للحكم تقوده مؤسسات دستورية ومدنية فاعلة وقادرة على ضبط سلوك المسؤولين وتقديم أفضل الخدمات للمواطنين وتقود تجربة صحيحة للعدالة الانتقالية.
وكما يقول أحد الباحثين الغربيين فان تحقيق تحول ديمقراطي ناجح يحتاج إلى تفعيل حكم القانون من جهة، وضمان أن تنفق الأموال العامة على الأغراض العامة المخصصة لها ولا تنفق على رعاية شبكات الأنصار والفساد والمحسوبية، كما يتطلب التخلص من الحكم السيئ والمؤسسات الضعيفة والفساد السياسي وشبكات المحسوبية عدم وجود لاعبين سياسيين أقوياء لديهم مصلحة في بقاء الحال كما هو عليه، وهذا المتطلبات مفقودة في العراق بشهادة كثير من المسؤولين الحكوميين. ولأن أكثر اللاعبين السياسيين الأساسيين يقفون بالضد من بناء الدولة وإصلاح النظام.
إن العملية السياسية التي بدأت في العراق منذ أكثر من عشر سنوات تعاني من عجز ديمقراطي واضح يمنع تحقيق التحول الديمقراطي المأمول، وكما يقول فرنسيس فوكاياما: فان الاستبدادية قد تكون خيارا مفضلا لدى الشعب على الديمقراطية العاجزة. والفوضى الهدامة التي يمر بها البلد اليوم وتنعدم فيها بوصلة التعقل والحكمة الهادية لصناع القرار، تذكر بحالة الفوضى والارتباك التي عاشها خلال السنوات من 1958 إلى 1968 التي انتهت بإنتاج أبشع نموذج للدكتاتورية في المنطقة مثلها حكم البعث بقيادة صدام حسين.
بناء على ما تقدم، ومع استمرار الحال على ما هو عليه، قد يكون العراق على موعد مع دكتاتورية جديدة في المستقبل، ربما لا يقف على رأسها أي من القادة المتسيدين على ساحة العمل السياسي في الوقت الحاضر، لكنهم سيسهمون في إنتاجها بسوء تقديرهم وسيتحملون نتائجها الوخيمة عليهم وعلى شعبهم.
مقالات اخرى للكاتب