في الحالة السورية, أخذ الأمر منا فترة قبل أن نعلن أن إنحيازنا للثورة على بشار ليس إنحيازا مجانيا, بل هو مشروط بقدرة هذه الثورة على أن تحارب من داخلها كل تيار طائفي وتكفيري وكل من له صلة بالقاعدة المجرمة وبمجاميع الذباحين التكفيريين.
في موقفنا ذاك كنا نعتقد أن بشار يبالغ في تضخيم وجود ودورهذه المجاميع كجزء من خطاب موجه لتحييد الغرب, تماما مثلما فعل القذافي وغيره من الطغاة الثوريين الذين ظلوا لفرة طويلة يحشون رؤوسنا بأفكار الثورة ضد الأمبريالية وإسرائيل, فإذا بهم في لحظات الخطر الذي بدأ يقترب إلى عروشهم يطرحون أنفسهم كحماة لحضارة الغرب, وحتى حماة لإسرائيل, في وجه مجاميع التكفيرين الذين قالوا عنهم انهم يشكلون التهديد الفعلي لهذه الحضارة. ولأنه لم يجري تعريف الإرهاب إلا بهذا المعنى, لذلك جرى بسهولة إخراج عملية الذبح التي قامت بها الأنظمة الدكتاتورية, بقنابل الطائرات والمدفعية وصواريخ أرض ارض وبراميل المتفجرات, من خانة الإرهاب, لأنها غير مشمولة بالتعريف الدولي له.
لكن بشار, الذي أراد من كلام الحق باطلا, لم يكن وحده الذي غذّى مخاوفنا, فعلى الأرض كان منظر الملتحين والذباحين التكفيريين وطيور الشريعة كافيا لإقناعنا أن ما يقوله بشار ليس كله كذب. أما الغرب فسرعان ما صدق هذه الرواية التي شجعته على أن يتأنى كثيرا ويراجع حساباته دائما حينما يفكر بدعم الثورة ولو بسكينة مطبخ.
وليس أدل على ذلك من موقف الرأي العام الغربي المعارض لضرب سوريا بعد قصة إستعمال السلاح الكيمياوي, إذ لم يكن هذا الموقف بعيدا تماما عن الخوف من أن تأتي الضربة لصالح القاعدة ومجاميع الذباحين التي بات واضحا تنامي تأثيرها ونفوذها على الأرض. أما التوجهات الإسلاموية لمجاميع واسعة من الثوار فقد كانت كافية لأن تثير المخاوف الطائفية المضادة.
في العراق لم يكن من الصعوبة تفسير الموقف الرسمي لحكومة المالكي المنحاز لحكومة الأسد بدعوى الخوف ذاته, أما الموقف السلبي بشكل عام فبدأ يتنامى أيضا دون أن يتماهى مع محورية الإصطفافات الحكومية كونها تعبر أيضا عن تحالفات إقليمية ولا تنحصر فقط في دائرة الموقف المضاد للإرهاب بالمعنى العام.
وحينما إعتصم عراقيو الأنبار ولحقهم عراقيو الموصل ووديالى وصلاح الدين بسبب توجهات وسياسات حكومة المالكي التي أدت إلى تصعيد الهوة الطائفية بدلا من ردمها, فإن كثيرين من أهل العراق الآخرين لم يقفوا موقفا سلبيا من الإنتفاضة, بل أن منهم من راح يدعم مطالبيها وعناوينها المشروعة بكل قوة ويتمنى ان ترتقي هذه العناوين لكي تعبر عن حالة رفض وطنية قادرة أن تتطور بعيدا عن الطائفية ومناهج التكفيريين المجرمين. وفي البداية كان هناك ثمة أمل بهذا الإتجاه, لكن واقع الحال لم يحل دون أن تدخل الإنتفاضة في سياقات ردود الفعل التي لم يكن مقدرا لها أن تنأى بوضوح عن خطاب طائفي بإتجاه معاكس. ولقد صار ذلك بيِّنا من خلال رؤية رجال الدين وهم يحتلون منصات الإعتصام وتراجع تأثير التيارات والرموز المدنية الوطنية. ولذلك لم يكن غريبا أن تنمو نزعتا الخوف والتوجس بذات الإتجاه الذي نمتا فيه على الساحة السورية. وأيضا فإنه لم يكن بمقدور الإعتصمات أن تنأى بنفسها عن سياق الحدث الإقليمي السوري الذي بدا متغلبا كثيرا على الحدث المحلي ومتقدما عليه ومؤثرا على طبيعته وسياقاته. أما معتصمو الغربية, من الوطنيين , فلم يكن بمقدورهم أن يخلقوا المعجزة بسبب ان الظرف المحلي والإقليمي لم يعد يعمل لصالحهم أبدا, وهو ظرف بدأ يعطي الأفضلية للسياسي على المطلبي والإقليمي على الوطني.
في هذا الظرف بالذات, الذي يوجب أن توزن تصريحات المسؤولين عن الإعتصمات بميزان الذهب, تأتي خطبة العلواني, النائب الأنباري لكي تدل الجميع على واحد من المشاهد الخطيرة التي باتت تهدد إنتفاضة المعتصمين, مثلما تهدد أمن العراقيين جميعا , ففي خطبة له رافقتها الكثير من صيحات التكبير, هدد العلواني بذبح خصومه بعد أن إدعى أن هناك خطة تآمرية وضعها الإيرانيون لتفجير مرقد السيدة زينب في سوريا يقوم على أثرها جيش المالكي وشرطته بذبح سنة العراق.
وأجزم أن العراقي العادل والمعتدل والبعيد عن الإنحيازات الطائفية والفئوية سيجد صعوبة في تفسير خطبة العلواني دون أن يشعر بأن هناك ثمة مفردات لا يمكن فصلها أو عزلها عن الخطاب السياسي والثقافي للقاعدة ذاتها, أما روحية الخطاب وعنترياته فلا يمكن للمرء أن يعزلها مطلقا عن وظيفة التعبئة الطائفية التي بات الكثير من السياسيين يتقنونها على الجانبين. وفي خطاب هجومي سابق له كانت قد أثيرت حوله الحملات التي إتهمته بالطائفية والعنصرية كنا من ضمن من دعى إلى التأني والحذر من القراءات الطائفية المضادة مع تمني أن يجد المعتصمون رجالا من بينهم قادرين على أن يختاروا خطبهم بطريقة لائقة تتناسب مع حساسية الموقف الإقليمي والمحلي, وما كنا نظن أن هناك صعوبة كبيرة ستجابه قيادات المتظاهرين لو أنهم أرادوا التعبير عن مطالب المتظاهرين بخطاب وطني واضح, إلا إذا إعتبرنا أن فرصة الوطنية قد ضاعت على العراقيين جميعا وإن علينا بالتالي, سنة كنا أم شيعة, ان نترك التنظيرات المجردة ونلتحق, كل بطائفته, مؤمنين أن فرصة اي حل عراقي خارج ثقافة الطائفية قد فاتت وماتت.
بإمكان السيد العلواني أن يؤكد لنا على أنه يمتلك وثائق بشأن ما ذكره حول مخطط تفجير مرقد السيدة زينب, وليست العبرة بعدها أن نصدق بوثائقية قوله أم لا نصدقها, فحتى في حالة تصديقنا فإن غلبتنا لخصومنا ذووي المخططات والنوايا الطائفية لا تقوم على تأجيج الطائفية المضادة ولا بإستعمال مفردات خطاب الذبح الخاص بالقاعدة والتكفيريين, وإنما من خلال خطاب وطني هادئ ورصين وبعيد عن الثقافة العنترية الجامحة. أما أولئك الذين سيحاولون الدفاع عن العلواني من خلال خطاب تبريري يشرح لنا كيف أن خطاب العلواني ليس سوى رد فعل على طائفية السياسيين الشيعة فلسوف نجيبه على المباشر أن ذلك ما يجعلنا شديدين في الموقف من العلواني كونه قد جاء لكي يتناغم مع الخطاب الطائفي العام الذي لا يمكن للعراق ان يخرج من أزمته مالم يخرج منه أولا.
أما العلواني فيستطيع أن يؤكد على أن خطابه لم يحمل تهديدا بهذا الإتجاه, وإنما هي تفسيرات الخصوم التي جعلت خطابه يبدو كذلك, وبالتأكيد فإننا سوف نصدق ما يقوله حول خصومه, لأن لنا موقفنا المعارض لهم ولأحزابهم وتجمعاتهم الطائفية, لكنه, وهو يطلب منا أن نصدق روايته, ينسى أنه بذلك يطالبنا بمزيد من التشدد ضده, لأن فهمه للإستعدادات الطائفية على الجانب الآخر هي ذاتها التي توجب عليه أن يكون حريصا على أن تأتي كلماته بمستوى الوطنية العراقية البعيدة عن ثقافة الطائفية ومفردات الذباحين.
أما المعتصمون فعليهم أن يعرفوا أن الجاهل من بين صفوفهم قد يكون, إذا إسترأس وتزعم, اشد خطرا بكثير من أخطار من إعتصموا ضده. وبالنسبة للوطنيين العراقيين فإن الطائفيين على الجهتين هم أعداء للعراق, ولن يكون من الصواب تصنيفهم على أساس من كان السبّاق بينهم, ومن كان صاحب الفعل أو صاحب رد الفعل.
مقالات اخرى للكاتب