الإنسان الكائن الفريد في قدرته على الإحساس بالواقع ويظهره على أنماط سلوكية متعددة لا يمكن حصرها وفرزها كقانون، مثل بقية الكائنات التي تتوافق في إنعكاسات الإحساس على سلوكها ويمكن للمتابع أن يتنبأ ويقيس النمط أو التصرف القادم، وكذلك قدرته الفذة على التحول السريع وأحيانا المفاجئ الذي يمكنه أن ينتقل من عالم حسي ذو صبغة خاصة إلى سلوك أخر وقد يكون نقيضا للأول، هذه المقدرة والتفاعل ليست إلا أمتداد لحالة الوعي الناضج لديه، نحن نتكلم عن الإنسان النموذج، أما ما يخرج عن قيم النموذج فقد تختل هذه الرؤية أو تتناقص أو تتزايد تبعا لمقدار الخلل عن القياس المتبع.
قد تجد الإنسان في لحظة حسية ما غارقا في عالمها متفاعلا مع الأسباب والمؤثرات لكنه ولفعل أو ردت فعل لحدث أو إحساس ينقلب تماما للجهة المعاكسة، وأحيانا يختلط المتناقضان الحسيان لدية في لحظة واحدة دون أم يستطيع الفرز بينهما، مثلا في حالة لقاء شخص مع أخر فجأة بعد فراق أو أبتعاد تراه منفعلا وسعيدا ويبكي في ذات الوقت، وكثيرا من الحالات الحسية نجدها تتداخل وتشترك في التجسيد السلوكي الفردي عند الإنسان، كذلك الحال تجد أن فردا ما مستغرقا بحالة حزن ووجوم تراه لسبب ما قد تحول من حالة أكتئاب وأنطواء والم إلى حالة نقيضة تماما، هذا التحول ليس أعتياديا ولا يمكن عدها كذلك لولا أن للإنسان خاصية فريدة هي قدرته على الترجمة السريعة للإنفعالات.
أيضا هناك قضية لا ينتبه لها الكثيرون من خلال الدراسة السيكولوجية للإنسان وهي أن الحزن والفرح وكلاهما ترجمة عقلية بأمتياز لردة فعل واعية وعميقة، تتفاعل داخل الذات البشرية، مهمتها معالجة حالة توتر نفسي أو معالجة حالة عدم توازن مفاجئ تصيب إدراك الإنسان نتيجة حدث أو تعرضه لمؤثر داخلي خارجي، فكلاهما الحزن والفرح حالة واحدة عقليا تنبع من ضرورة تصحيح وضع طارئ، وبالتالي لا الحزن ولا الفرح طبيعة بشرية بل هي معالجات طبيعية لحالة مؤقتة أو طارئة، وعلينا أن ندرس القضية من هذا الجانب، لا يوجد إنسان حزين كما لا يوجد إنسان سعيد، بل كل ما نراه أن العقل الفردي أحيانا يميل للتفسيرات الحزينة أو السعيدة ويعبر عنها سلوكيا فتنعكس العلامات الخارجية وحتى التفاعلات الداخلية بموجب تفسيرات العقل وليس للنفس الإنسانية إلا التجاوب والرضوخ للفعل العقلي.
هنا يمكننا أن نفسر الحزن كمعنى يرتبط بطبيعة المنظومة العقلية للإنسان وكيفية المعالجة التي تتبعها المنظومة هذه للواقع الذاتي والموضوعي الحولي، فمثلا لا يمكن أن نحكم دوما أن تعرض الأفراد إلى تأثير واحد أو التعرض لحدث واحد يمكن أن ينتج نمطا موحدا وقياسيا عند الجميع، هذا التفاوت بالتأكيد ليس أفتراض نظري بل واقع نجده يتفاوت بين الأفراد حسب معطيات التربية والثقافة والأعراف والتقاليد، وأيضا حسب ما يمكنه النظام العقلي من قدرة على الترجمة والتمظهر والتعبير.
كمعنى الحزن كما هو الفرح ظاهرة حسية ذات منشأ عقلي تعبر عن طريقة وعي الإنسان وردت فعله على حدث ما أو عامل حس قادر على تغيير التوازن المعتاد مما يشكل حرجا عقليا للنظام الطبيعي المعاش، فليس بالضرورة أن يكون الحزن والفرح حالة حقيقة في الوعي والشعور العميق كما لا يمكن أن ننكر أن تكون كذلك، لكن الأهم من كل ذلك طريقة تعامل القوى العقلية معه ومحاولة إيجاد التوازن المطلوب لنخرج بمعادلات تعيد التوازن الضروري لاستمرارية الحياة بشكلها المعتاد، الحزن أحيانا ينجح في جر الإنسان للسلبية في التعامل مع الواقع مما يولد مفاهيم أقل ما يقال عنها أنها مثبطة وأحيانا سوداوية تعطل الفعل العقلي وتحرفه عن المسار الأصلي، وكذلك الإفراط في السعادة تجر إلى نوع من التساهل الذي يؤدي للإهمال والتكاسل، وبالنتيجة كلا الشعورين يصبان في تدهور الواقع الفردي ويعطلان مشروع العقل.
ومن هنا يمكنن أيضا أن نكتشف دلالة الحزن والفرح في واقع الإنسان على أنهما عنصران محركان ومنشطان للفكرة العقلية المجردة للأشياء من حولنا، فلا الحزن قادر لوحده أن يرسم منهج للحياة ومعالجة الإشكاليات المتعلقة بالنكوص والخيبة والألم ولا الفرح يمكنه أن يفعل ذلك لوحده، إن تعرض الإنسان وبشكل متكرر وأحيانا متداخل لعوامل الفرح والحزن يزيد من قدرته على أكتشاف الكثير من الأشياء والمواضيع التي تختفي عن بصره وبصيرته نتيجة أندماجه التام بمشروعه الوجودي، هذه الخاصية مهمة جدا وضرورية ليرسم ومن خلالها رؤية وتكوين فكرة وبناء نموذج للقدرة المستقبلية كتجربة يستفاد منها في المعايشة والتفاعل الإيجابي مع إشكاليات الحياة اليومية والكلية.
من جانب أخر حين ندرس الحزن مظاهراتيا نكتشف أيضا أن التفاعل مع الظاهرة يختلف ويتنوع ويتدرج من أهتمام بسيط سرعان ما ينتهي عند البعض، وإلى أستغراق تام وأحيانا كليا حتى في الوعي العميق واللا مباشر للبعض، والسبب يعود إلى نموذج التربية العقلية للفرد أولا، وقدرة النفس كقوى متعددة على مقاومة أو التسليم للحزن كفعل عقلي، هذا التفاوت ليس فقط هو ما نجده في السطح الخارجي للشخصية ولكن أحيانا يتغلغل عميقا في الذاكرة البعيدة والوعي الباطني، فنجد سلوكيات الفرد الحزين حتى في الجوانب التي من الممكن أن لا تحتسب على الحزن، نراها قد تأثرت بدرجة ما من مظاهر الحزن وإن لم يتقصدها بوعيه الظاهر، هذا الشعور ليس فطريا كما يرشد الكثير من كتاب علم الأجتماع ودارسيه بلا هو شعور نفسي عقلي طبيعي بعدم القدرة على التغيير ومكافحة العالم الأساسي الذي يولد الحزن وهو الظلم.
مقالات اخرى للكاتب