كلما نشرت الصحف أو نقلت الفضائيات، فضيحة دسمة من فضائح الفساد المالي، يقف وراءها، أو يغطيها مسؤول حكومي او سياسي، انتقل الحديث في اليوم الثاني بين الناس، ومع ان الاسواق والشوارع والمقاهي تعد أماكن خصبة لتلك الأحاديث، ولكن سيارات الأجرة (الكيا) هي الأخصب، لأنها تجمع خليطاً غير متجانس من الركاب، يناقشون ويجتهدون ويروون أعاجيب الحكايات، وإذا كان احدهم سيئ الحظ مثلي لأن طبيعة عمله تقتضي ان يرتدي ربطة العنق أحياناً ويحمل حقيبة دبلوماسية، فأنه (يبتلي على عمره)، حيث تنهال عليه الأسئلة والاستفسارات وكأنه خبير فساد مالي، أو ضالع في صفقة مشبوهة! قبل أسابيع قلائل، واثر الإعلان الرسمي عن مبالغ الفساد المفزعة التي شهدها العراق في السنة الماضية -وهي لا تختلف عن سابقاتها من السنين- كان ركاب الكيا على عادتهم منفعلين حوارا وحزنا وتأففا، وقد توجهت الانظار نحوي عندما سألني احدهم (أستاذ.. يرحم ابوك .. بالخارج هم اكو فساد مالي، يعني مثلا بفرنسا بألمانيا بالسويد، اكو لغف مثل لغف جماعتنا، لو بس عدنا؟!)، أربكني السؤال المباغت، فانا لا افهم في قضايا الفساد والمقاولات والأغطية القانونية للسرقات، ولا ادري كيف تسير الامور في العالم، ولم أغادر بغداد طوال حياتي سوى ثلاث مرات الى آثار بابل وملوية سامراء وسدة الهندية ضمن السفرات المدرسية، ولهذا حاولت التملص من الإجابة بطريقة مازحة وقلت له: والله يا اخي اللغف ظاهرة عالمية، موجودة هنا وفي الهند واليابان وأميركا، ولكن الطريقة تختلف، فالمسؤول البريطاني الفاسد مثلا عندما يحيل مشروعا الى مقاول كبير دون غيره من كبار المقاولين بمبلغ مليار جنيه، يتفق معه على عمولة قدرها عشرون بالمئة من (الربح)، وحين ينتهي المشروع، ويخضع لأجهزة التقييس والسيطرة النوعية، وانه مطابق تماما لمواصفات العقد، يقوم المقاول بحساب ربحه الكامل من المشروع، فإذا كان صافي الربح (5) ملايين جنيه، يعطي للمسؤول حصته وهي (مليون)جنيه، ويأخذ حصته البالغة (4) ملايين جنيه، ومع ذلك لو افتضح الامر، يفصل المسؤول ويغرم المبلغ مضاعفا ويحال إلى القضاء، وتتركه زوجته ويستعير منه أبناؤه، وقد يعمد الى الانتحار، اما المسؤول الفاسد في العراق فيحيل المشروع بمبلغ مليار دينار، وبعد مرور ستة أشهر وسنة وسنتين وثلاث، لا يظهر المشروع الى الوجود، لانه على الورق فقط، اما المليار فيتم تقاسمه مناصفة، وهكذا يتم نسيان القضية، أو يحدث حريق في طابق العقود، ومع ذلك إذا افتضح الأمر فهناك احتمالان، اما ان يكون المسؤول قد غادر العراق نهائيا وفي ذمته عشرات المشاريع الوهمية المماثلة، او يتم غلق القضية، إكراماً لعيون الحزب الذي ينتمي اليه، والا فانه سيفضح حرامية الحزب الذي يريد فضحه، وهكذا تجري الامور بشفافية وسلام!!
مقالات اخرى للكاتب