عندما ينبري الفقهاء من اتحاد علماء المسلمين لتوليد فقه مسخ للجهاديين الجدد، يبيح لهم الاستعانة على المسلم بالكافر لبناء دولة للإسلاميين على جماجم المسلمين، فلا تعجب لمشهد يصور جهاديا من سورية وهو يحيي سنة هند آكلة الأكباد، ويقسم المسلمين بين معسكر موالي للحجاج وفسطاط للمسخ من القرامطة والحشاشين.
حلول الذكرى الخامسة والستين لنكبة المسلمين الكبرى بضياع فلسطين لا بد أنها عمقت مشاعر الغبن واليأس عند الفلسطينيين، ويفترض أن تعمق مشاعر مماثلة عند عموم العرب والمسلمين، وهم يشاهدون على المباشر حلقات مسلسل النكبة الكبرى التي تحل بالمسلمين وهم منخرطون في قتال بيني، وتطاحن سعرت نيرانه في معظم جغرافية العالم الإسلامي، يقتلون أنفسهم بأيديهم، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، ويخرجون فريقا منهم يظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، لتصدق في حقهم آية كانت قد نزلت في الغلاة الفجرة من بني إسرائيل: " ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" البقرة85
إحياء سنة هند آكلة الأكباد
فليس من الصدفة أن يوم الأربعاء الماضي، يوم استذكار نكبة المسلمين في فلسطين، لم تكن القضية الفلسطينية حاضرة فيه في أي محفل دولي يندد بالجريمة الصهيونية المتواصلة، بل كان يوما حوله بعض العرب إلى يوم تستعدى فيه المجموعة الدولية على بلد عربي بمشروع القرار القطري الذي أقر داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وانتزع إدانة عالمية لدولة عربية شقيقة، مبتلاة بفتنة كان الأشقاء العرب هم من أوقدها وغذاها بالمال والرجال والسلاح.
وليس من الصدفة أن يكون الأسبوع بالكامل قد شهد حملة إعلامية عالمية مسعورة تناقلت صورا وأفلاما تسجل ما يرتكبه العرب والمسلمون من ''أعمال بربرية" في حق أبناء جلدتهم وملتهم، مثل ذلك الفلم المروع لأحد القادة من الجيش السوري الحر وهو يشق بدم بارد صدر أحد أفراد الجيش العربي السوري، ثم يستأصل قلبه قبل أن يلوكه، وقد تصاعدت من حوله التكبيرات، تماما كما تصاعدت من قبل تكبيرات تثني على القصف الصهيوني لمواقع للجيش السوري.
وهل يكون من الصدفة أن تنشط مجددا الجمعيات الحقوقية الدولية، على هامش إحياء ذكرى النكبة، لتكثف من بياناتها حول أعمال التطهير الطائفي والمذهبي التي يون قد ارتكبها النظام السوري في البيضة وبانياس، وخروقا مماثلة تكون قد ارتكبتها المجاميع المسلحة كما صورها آخر فلم نشر هذا الخميس عن عملية إعدام جماعي ارتكبتها جبهة النصرة في حق بعض الأسرى من المدنيين والعسكريين الموالين للنظام.
الإساءة للإسلام بالغلاة من المسلمين
غير أن مشاهد النكبة الكبرى التي تعصف بالمسلمين اليوم ليست محصورة في ما يجري في سورية، لأن النكبة في العراق متواصلة بأعمال قتل جماعي يومي، أعيد تنشيطها لتغذية نشرات الأخبار بمزيد من صور العنف والاقتتال الهمجي بين المسلمين، بل يتم تصديرها لدول إسلامية أخرى مجاورة، كما حصل في جنوب تركية، ويجري زرع بذورها في دول الربيع العربي بتفجيرات في بن غازي الليبية، وبتوطين معقل جديد للقاعدة بتونس، وتحويل سيناء إلى بؤرة قتال تغطي على نكبة إخماد جذوة المقاومة في غزة.
وفي أثناء ذلك تراجعت التغطية الإعلامية للجرائم الأمريكية المتواصلة في أفغانستان، والجرائم المرتكبة ضد الأقليات المسلمة في بورما والصين وتايلاند والفلبين، كما اختفت من النشرات الإخبارية أحداث التهويد المتواصل للقدس، وتمدد الاستيطان الصهيوني بالضفة، ومر الجميع مرّ الكرام على قرار بعض العرب من الخليج التنازل عن الأراضي العربية والفلسطينية نيابة عن جميع العرب والمسلمين على خلفية إحياء ما سمي بمبادرة السلام العربية.
وفي الجملة فإن تجميع أجزاء الصورة الكبرى من هذه القطع المسجلة تحت أسماء متعددة لحالة مأساوية واحدة، ينبغي أن يقودنا إلى الوعي بأن المستهدف ليس تشويه صورة المسلمين، وتسويقهم كقتلة وسفاحين، أكثر بربرية من آكلي لحوم البشر من البدائيين، بل الغاية منها حمل الرأي العام العالمي إلى النظر للإسلام كدين عنف وقتل وسفك للدماء، واستخفاف بالنفس البشرية، معادي للقيم الإنسانية على الإطلاق.
صناعة الصورة النمطية "للمسلم السفاح"
قبيل اندلاع أحداث الربيع العربي كان الغرب قد وجد صعوبة كبيرة في تسويق الصورة النمطية المسيئة للمسلمين وللإسلام، سواء عبر عمليات المجاميع الجهادية التي كان لها في زمن قيادة الشيخ أسامة بن لادن للقاعدة قدرا من الشرعية والمشروعية، على الأقل عند المسلمين، وقد فشل الغرب في العيش لمدة طويلة على صور عنف العرب والمسلمين من أحداث تفجيرات نيويورك وواشنطن ولندن ومدريد، لأن العنف هنا كان يجد بعض التبرير من جهة ارتباطه بصراع تاريخي، له مبرراته، بين الغرب الاستعماري والعالم الإسلامي، وقد فشل من قبل في تسويق صور نمطية مماثلة في حرب التحرير الجزائرية، وحتى في أعمال المقاومة الفلسطينية وعملياتها الاستشهادية ضد المحتل الصهيوني وحلفائه من الغرب.
إنتاج مثل هذه الصورة النمطية عن "إسلام همجي" ينتقل من التحريض على أعداء الإسلام والمسلمين ولو بالأساليب المتطرفة للقاعدة، إلى إسلام يحرض على قتل المسلم للمسلم، ويستحل دمه على أيدي علماء فقهاء، يدعون الإسلام الوسطي، كان يحتاج إلى حلفاء وشركاء من النخبة السياسية والدينية الإسلامية الوسطية المعتدلة، وتسخيرها كشريك في تصنيع الفوضى الخلاقة وزرعها في قلب العالم الإسلامي بالتلويح الصريح لها بمغانم السلطة والحكم.
فقه مسخ للجهاديين الجدد
فقد كانت البداية من العراق، بإشراك أحزاب الإسلام السياسي من الشيعة والسنة في هدم النظام الوطني، بشراكة مكشوفة مع عدو الإسلام والمسلمين الأول، ثم جاء حراك الربيع العربي ليعمم التجربة العراقية بفتح باب المشاركة لحركات الإسلام السياسي في قلب نظم الحكم، بما رأيناه في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، والدفع بصفوة مشايخ الدين في اتحاد علماء المسلمين إلى إنتاج فقه جهادي جديد يقلب قاعدة الجهاد في الإسلام رأسا على عقب، يحرض صراحة على شرعية قتال المسلمين للمسلمين، ويفتي بجواز الاستعانة بالكافر والمشرك في قتال المسلمين.
حامد الخالدي، ذلك الشاب من الجيش السوري الحر، وقائد فصيل عمر الفاروق الذي بقر صدر الجندي السوري ولاكه وهو يكبر، ورأيناه يصرح لجريدة بريطانية "أنه ليس نادما على ما فعل" قد يجد من يلتمس له بعض الأعذار، حتى وإن كانت الفطرة البشرية فينا قد أصيبت بوصمة العار من ذلك الفعل البربري، الذي لا نقبله من البشر في حق الحيوان، حتى نرتضيه للإنسان في حق إنسان فضلا أن يقبل من مسلم في حق مسلم، لأنه سبق لهذا الشاب أن سمع من كبار علماء المسلمين من حول الشيخ القرضاوي يحللون قتل شيخ جليل نظير لهم في الإنسانية وفي العلم والفقه بقامة الشهيد البوطي، ويبيحون دماء كل من اشتبه في دعمه للنظام السوري، كما أحلوا من قبل دم القذافي ودماء كل من والى نظامه، ولم يستنكر أحد منهم من قبل مشاهد مماثلة لثوار النيتو وهم يمثلون بجثث أنصار القذافي، أو بمشهد مقزز لأحدهم وهو يستخرج قلب جندي ليبي، ثم يشويه ويلوكه كما لاكت هند كبد حمزة.
دولة "للإسلاميين" على جماجم المسلمين
ومع الترويج العالمي لهذه المشاهد الفظيعة، التي يباركها الإسلام السياسي والنخبة من مشايخ الإسلام المدعية للوسطية ولو بالصمت عنها، فإنه لم يعد للمسلمين حجة ولا ذريعة، كما كانت لبعضهم حين كانت تصدمهم صور تنكيل القاعدة بمن تختطفهم من الرعايا الغربيين، لأن الصور الفظيعة المنقولة من ليبيا تونس مصر وسورية، أبطالها وضحاياها مسلمون، منخرطون في قتال ظاهره داخلي بين المسلمين على السلطة، يحظى بدعم مادي ومعنوي من شرائح واسعة من النخب غير الإسلامية في العالم العربي، وبرعاية فقهية من خيرة علماء العصر، تحت عنوان تحرير الشعوب العربية من الاستبداد، والتمكين للإسلام ولو عبر المسارات الديمقراطية الغربية، ولو بالاستعانة بقوة النيتو المشرك، ولو بالغارات الصهيونية على سورية، ولو برعاية هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، والتنازل لها نيابة عن الشعب الفلسطيني عن أرضه وعن حقه في العودة.
كمسلم مطلع على مفردات دينه من الكتاب المحفوظ، ومن صحيح السنة، أعلم علم اليقين أن الإسلام بريء مما يقترفه بعض المسلمين، ممن هجر سنة نبي الرحمة، وأحيى سنة السفيانية هند آكلة الأكباد، وزايد على غلو الخوارج، واقتدى بسيرة القرامطة وزعماء ثورة الزنج، وقادة الحشاشين من الشيعة الإسماعيلية، وكلها فتن من صنع البشر صنعت فظاعات ارتكبت باسم الدين الإسلامي، والإسلام منها بريء، بل أخبرنا عنها القرآن الكريم، وحذرنا منها سيد المرسلين، وقد سبقنا إليها الغرب بما كان ترتكبه الكنيسة من جرائم ومذابح باسم الدين المسيحي وهو منها براء، نعلم أنها كانت بدافع القتال على السلطة كما هو اليوم قتال زعماء الإسلام السياسي على السلطة، بعد أن قيض لهم ما يشبه الكنيسة والكهنوت في هذا المحفل الماصوني الذي يدعي لنفسه عنوان اتحاد علماء المسلمين.
بين معسكر الحجاج وفسطاط القرامطة
غير أن اعتقادنا ببراءة الدين الإسلامي من هذا السلوك الإجرامي لا يعفينا من واجب محاسبة من يسيء للإسلام من المسلمين، بقدر يفوق تلك الإساءات المتكررة التي تنطلق من الغرب ضد الإسلام، ويعتدون على دماء المسلمين بشراسة أكبر من شراسة الاستعمار الغربي القديم والجديد، وقد تساوت في هذه الاعتداءات قوى المعارضة مع النخب الحاكمة، والتحقت الزمر الإسلامية بالزمر العلمانية ومن لا دين لها.
فليس من المعقول أن تقبل الشعوب العربية والإسلامية، المكلومة بنكبتها المتواصلة في فلسطين، التي تبقى وصمة عار في جبين جميع العرب والمسلمين، المثخنة بجراح ومآسي العدوان الأمريكي الغربي على الأمة في أفغانستان والعراق وليبيا، ليس من المعقول أن تنقسم مجددا إلى فسطاطين يغذيان المذبحة البشعة في سورية، ويرضون الاستعانة بأعداء الأمس واليوم من قوى الشر في الشرق والغرب، وتنقسم نخبها الفكرية والسياسية والدينية إلى معسكرين يبرران هذا السلوك البربري الفاشي مع الإنسان العربي والمسلم، الذي يسيء للإسلام أكثر من أي إساءة صدرت من قبل بالرسوم الكاريكاتورية أو بالأفلام والكتابات الغربية، وكأن الأمة برمتها قد توزعت بين معسكر أحفاد الحجاج والمسخ من القرامطة.
مقالات اخرى للكاتب