ما لم ينتبه الإسلاميون إلى استحالة التمكين لدولة الإسلام تحت أحكام الدولة الغربية الحديثة الفاسدة، فإني أبشرهم بإحدى السوأتين: إما الانصياع لخدمة قوى العقب الحديدي بالوكالة، أو الانقلاب المتواصل عليهم بأدوات الدولة العميقة.
"ما تعتقد معرفته يحجب عنك في الغالب ما ينبغي عليك أن تعرفه"يقول عالم الاجتماع واللسانيات غاستون باشلار، وذلك حال كثير من الناس مع أحداث الربيع العربي، وتحديدا مع مآلاته الغامضة في مصر وسورية.
وإني أعترف أني قد وجدت صعوبة كبيرة في البحث عن موقع وسط مع القراء لرصد الأحداث، وتحليلها بقدر من الموضوعية، بعيدا عن المشاعر والدوافع الذاتية، والمسلمات الفاسدة التي يشيعها الإعلام والصفوة المهيمنة.
منطق من ليس معنا فهو ضدنا
فقد حاولت أن أقرأ الأحداث الجارية في مصر كما حصلت، ووصفتها بما ينبغي أن يصفها أي تحليل موضوعي، على أنها "انقلاب عسكري على شرعية أفرزها الصندوق" تماما كما حصل من قبل مع الرئيس السابق مبارك، وأن الانقلاب بدأ التحضير له في وقت مبكر، وتحديدا منذ أن شعر العسكر أن الرئيس الإخواني بدأ ينقلب على الاتفاق الثلاثي بين العسكر والأمريكان والإخوان، وهي حقيقة لا ترد، بل أكدتها مواقف وتصريحات لقيادات في الإخوان، وقرائن كثيرة هي الآن محل تحقيقات قضائية.
ردود الأفعال عند القراء لم تختلف كثيرا عن ردود الأفعال عند الإخوان في مصر وخارج ومصر، وعند كثير من فعاليات الإسلام السياسي، التي هي كالعادة لا تقبل الرأي المخالف حتى حين يصدر من جهات تشاركها حلم أغلبية المسلمين في التمكين لنظام حكم إسلامي، ناهيك عن آراء خصومهم من الضفة الأخرى.
والواقع أنني لم أفاجأ كثيرا بتلك الردود، فقد سبق لي في التسعينيات من القرن الماضي أن تلقيت ما هو أسوأ منها، على لسان"المنقذ" لسان حال جبهة الإنقاذ، التي اتهمتني وقتها بالعمالة للمخابرات الجزائرية، واتهمت معي أسبوعية "الصح-آفة" بالطعن في ظهر المشروع الإسلامي، لا لشيء سوى أنني دعوت قيادة جبهة الإنقاذ عشية الانتخابات التشريعية المقبورة إلى صرف النظر عن المشاركة في الانتخابات، والاكتفاء بما كان قد تحقق لها في المحليات، ودعوتهم إلى كبح جماحهم، والتفرع لتكوين إطاراتهم في المحليات.
حال من قص شوارب النظام وعفا عن لحيته
ولعل القارئ الذي تابع معظم مقالاتي حول الربيع العربي يكون على الأقل قد وقف عند ثلاث محطات متواترة في التحليل، كانت أقرب إلى التحذير المبكر منها للتحليل الصرف.
الأولى: أني وصفت أحداث الربيع العربي في تونس ومصر واليمن، على أنها محض تغيير للأحصنة النافقة، ليس فيها أي توجه ثوري لتغيير الأنظمة القائمة، ووصفت ما حدث في مصر في يناير 2011 بعبارة "قص الشوارب والعفو عن اللحية" بمعنى أن التغيير اكتفى بتغيير رأس النظام، وعفا عن مكونات النظام في الدولة العميقة.
الثاني:أن الإنقلاب الحاصل في موقف الغرب، وفي الموقف الأمريكي تحديدا من مشاركة مكونات الإسلام السياسي في إدارة التغيير، هو استدراج كيدي للإسلام السياسي، يراد له أن يستقطب الإسلاميين لخدمة المنظومة الليبرالية الغربية، كما استقطب وسخر اليسار الاشتراكي والشيوعي الغربي بداية منتصف القرن الماضي.
الثالث: أن الإسلام السياسي المبعد من المشهد السياسي ومن فرص التداول والمشاركة لعدة عقود، لم يسمح له بتكوين أو استقطاب إطارات دولة يعول عليها في إدارة البديل، وحرم من الإطلاع على الواقع المادي للدولة، فضلا عما تختزنه الدولة العميقة من أدوات تعويق فعالة، قادرة على إفشال أي مشروع حكم يبادر إليه الإسلاميون.
ذنبي الوحيد، أن أقل من ثلاث سنوات كانت كافية لتأكيد الحقائق الثلاث، فلست أنا من يقول اليوم: أن العالم الغربي وحلفاءه في المنطقة قد تآمر على القيادات الإسلامية، وغرر بها، ونكث وعودا معلنة بالدعم المادي، لم يصل منها سوى دولارات معدودة لتونس ومصر، ولست أنا من يتهم اليوم الدولة العميقة في مصر بالتآمر على الرئيس مرسي وإفشال مشاريع حكومته، ولست أنا من يقول اليوم ما قاله الوزير الأول المغربي ألإخواني: "إن الوضع من الداخل يختلف عما كنا نراه من الخارج".
خسارة الإسلام السياسي لا خسارة الإسلام
ولمن شاء أن يراجع الكم الهائل من التصريحات النارية لقيادات الإخوان في مصر وتونس والمغرب، وهي تعترف اليوم بهذه الحقائق علنا، بعد أن كشف عن أعينها الغطاء، فصار بصرها اليوم حديد، ترى ما كان ينبغي لها أن تراه قبل أن تجازف بهذا القدر من الارتجال في تحمل مسؤولية إدارة دول كانت معوقة أصلا، ومستهدفة تحت أية قيادة لها بعض الغيرة الوطنية.
ثم ما الداعي إلى هذه المنوحة العظيمة، وندب الخدود، وشق الجيوب، والادعاء الكاذب: بأن ما حصل في مصر هو انتكاسة للإسلام وانقلاب عليه، وكأن مصير الإسلام ومستقبله ووجوده كان رهن استمرار الرئيس مرسي في الحكم؟ ما أراه رأي العين هو بلا شك انتكاسة لجماعة الإخوان المسلمين، وربما انتكاسة ظرفية للإسلام السياسي، ليس لها تأثير على مستقبل الإسلام، لا في مصر ولا في بقية الدول الإسلامية، وإلا كان الإسلام قد انقرض مع أول انقلاب على الشرعية والشورى، حدثت في صدر الإسلام بعد الإطاحة بالخلافة الراشدة لصالح أمراء بني أمية، أو كان الإسلام قد انقرض بعد سقوط الخلافة العباسية على أيدي التتار والمغول، أو كان انتهى بعد أن أنهت وجوده السياسي والحضاري في الأندلس حروب الردة القشتالية، أو الحروب الصليبية وما أعقبها من حروب استعمارية طالت معظم جغرافية العالم الإسلامي.
ما حدث لا يعدوا أن يكون خسارة وانتكاسة كبيرة ومفجعة لفصيل من الإسلام السياسي، بحجم ومكانة وتاريخ الإخوان، كنا نتوقع منه قدرا من الحكمة والتبصر والإلمام بحقائق وتعقيدات هذا العالم الحديث، الذي لا يحارب الإسلام فقط، بل يحارب ويجتهد لغلق أبواب السلطة في وجه كل من يحمل في جيناته السياسية أبسط تهديد لما يصفه الأديب الأمريكي جاك لندن بـ"العقب الحديدي" وهو منظومة إجرامية عالمية من كبار الأوليغارك والمرابين الذين استولوا على السلطة في المنظومة الغربي المهيمنة، ويعيثون بها الفساد في المعمورة، وهي منظومة فاسدة ومفسدة تعمل بأدوات الدجال، وتفسد كل من يقترب منها، أو يغري نفسه بإصلاحها من الداخل.
منطق الظروف عند لاعب البلياردو الغربي
قد نصدق ما قاله ستالين: "إن منطق الظروف هو دائما أقوى من منطق النوايا" وحري بنا أن نلتفت إلى "منطق الظروف" الذي له كل الوزن والثقل في تقرير المواقف، وما حصل ويحصل في مصر وفي كثير من دول الربيع لا نفصله عن مسار الانحسار العظيم للقوى الأنغلوساكسونية المهيمنة، التي وصفها أندري فيرسوف الأستاذ بجامعة العلوم الإنسانية بموسكو "أنها تشبه لاعب البلياردو تعمل بمبدأ الفوضى المنظمة... وأن أمريكا اليوم هي أشبه بالإمبراطورية الرومانية في زمن الإمبراطور تراخان بداية القرن الثاني، فقد انتقلت روما وقتها من الهجمات الإستراتجية إلى الدفاع الإستراتيجي، وبدأت تتخلص من بعض المناطق المحتلة تحديدا في الشرق الأوسط"، ولأجل ذلك وجب النظر إلى الأحداث الجارية في منطقنا وفق "منطق الظروف" التي تجبر فيها الصفوة الأنغلوساكسونية على التراجع، وليس إلى "منطق النوايا" عندها أو عند الفعاليات التي تتعامل معها أو ضدها، فلم يكن وصول الإسلاميين إلى الحكم بداية لما يسميه الإخوان "زمن التمكين" ولن يكون الانقلاب عليهم بداية النهاية للإسلام السياسي، فضلا أن يكون نهاية للإسلام، أو الانقلاب عليه كما يدعي بعضهم.
الانقلاب الذي أنقذ الإسلاميين من الإخوان
ترى ما الذي سقط مع سقوط حكم مرسي والإخوان؟ وما الذي كان يعد به الإخوان في سياق التمكين لمنظومة حكم إسلامية حتى يدعي من يدعي أن الانقلاب كان على الإسلام وليس على حكم الإخوان؟ عبثا تبحث في البرنامج الذي انتخب عليه الدكتور مرسي والإخوان، عن بند واحد يبشر بإحداث فارق محسوس، يجعل من حكم الإخوان بداية لحكم نظام إسلامي، حتى أن حكومة مرسي قد أنفقت الجزء الأكبر من وقتها ومن جهدها في الدهن للأخ الكبير عسى أن ييسر التوقيع على قرض صندوق النقد الدولي الربوي، وقدمت من الخدمات والتطمينات لحماة الكيان الصهيوني، لم يقدمها حتى النظام السابق، ولم تقدم لـ"شعيب لخديم" المصري المقهور من الخدمات، أو حتى من الوعود بتحسين أحوال الغلابة، ما كان سيمنع العامة من المشاركة في مسرحية 30 يونيو التي غطت على الانقلاب العسكري.
وحيث أني لم أعوّد نفسي على الأخذ بالمظاهر، وما يعتقد للوهلة الأولى أنه الحقيقة، أو الركون إلى البحث في منطق النوايا، فإني أرى أن الانقلاب العسكري قد قدم خدمة جليلة، ليس فقط لجماعة الإخوان، بل لعموم مكونات الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي.
فمن الواضح أن استمرار الرئيس المخلوع مرسي في الحكم لأربع سنوات، كان سيفضي إلى خسارة أكبر للجماعة ولمصر، بالنظر إلى قلة خبرة الإخوان في تسيير دولة، كانت وما زالت تأتمر بأرباب الدولة العميقة، وبالنظر إلى المساومات الدولية والغربية تحديدا، التي كانت ستخضع الإخوان لابتزاز بلا حدود، كان سيخرج الإخوان من الباب الضيق عند أول استحقاق انتخابي، وقد يكون إخراج الإخوان بانقلاب عسكري أفضل لهم من ترحيل مهين كان سيتم عبر صناديق الاقتراع.
الثورة المؤجلة على العقب الحديدي
ويأتي هذا الانقلاب الجديد ضد حزب إسلامي وصل للسلطة عبر هذه الديموقراطية العرجاء، ليحث الإخوان وبقية مكونات الإسلام السياسي على إنجاز مراجعة سريعة وعميقة حيال المشاركة مستقبلا في السلطة، عبر هذه الصيغة الغربية للدولة الحديثة، التي سوف تسقط كل مشروع لا يتماهى مع الهوية الليبرالية الغربية للدولة، وتوجهات العولمة فيها، وأن تراهن على مقاربة جديدة ومبتكرة لغزو مواقع السلطة، ليس بالضرورة عبر أحزاب ذات هوية إسلامية ينصب لها العداء بصورة تلقائية، بل من خلال أحزاب مدنية صرفة، تمرر مشروعها الإسلامي عبر البرامج التشريعية حين تتهيأ لها الأغلبية.
وحتى في هذه الحالة يكون لزاما على القوى الإسلامية أن توطن نفسها على استحالة التأسيس لنظام حكم إسلامي تحت أركان ما يسمى بالدولة الحديثة ذات الهوية الغربية الصرفة، وأن أكبر خدمة يمكن للإسلام السياسي أن يقدمها للمسلمين ولغير المسلمين، هو صياغة نموذج مبتكر لدولة إسلامية حديثة، قادرة على تحرير الإنسان والأوطان من الفساد والاستبداد المتأصلين في الدولة الغربية الحديثة، التي تخدع المواطن عبر أسطورة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، يقتصر في الغالب على تداول الصفوة من سدنة النظام المنظم لا غير، ولا تقبل من الإسلاميين سوى النسخ المدجنة من كرزايات أفغانستان والعراق، أو الإسلام السياسي الخدمي الإردغاني.
مقالات اخرى للكاتب