ربما لسنا كلنا طائفيين، لكننا نمتلك جميعاً تعاطفاً نفسياً مع مواقف طوائفنا السياسية.
قد يظهر هذا التعاطف الناعم في قصيدة هنا أو مقالة هناك، أو ربما عبر منشور قصير على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي ليشكّل "حقيقة" احادية منحازة لا نريد إختبارها في الواقع.
هذا امر طبيعي. إننا بشر، ماركة مشوّشة صنعتها عقائد الازمان.
ثمّة أناس خرجوا من نسق الطائفة فصاروا مثالاً للاعتدال والوسطية عند "الآخر". مشكلتهم إنهم خرجوا من واحدة فسقطوا في الأخرى. مَثَلُهم مَثَل الذي تسلّق جداراً ليتلصّص على جاره فسقط في بيت الجار غير قادر على العودة مجدداً. صار لا يرى سوى بيت جاره. يصف تفاصيله ببراعة فينسى اشياء داره الاصلي، حتى الثمينة منها. صار مجاملاً لصاحب تلك "الدار" كي يحافظ على وجوده الاعتباري عنده.
هو ليس معتدلاً. هو يكتب كل ما يرضي صاحب "الدار" الثانية. يتألّم لألمه ويصرخ لصراخه، ناسياً صراخ أهله وناسه، بل يستحي من ذكرها خشية إتهامه "بالإنحياز الى الاصل". هذا ليس موقفاً عابراً للطائفية، بل طائفية من نوع آخر. نوع يعاني إختلالاً في الهوية او بالاحرى إنتقالاً من نسق معين الى آخر، قد يكون نسقاً طبقياً او دينياً او طائفياً، وهذا ما يسمّيه علماء الاجتماع "بالتحوّل الاجتماعي" (Social Mobility).
مثل هذا النوع ليس بالضرورة معتدلاً او محايداً، بل ربما يكون أشد تطرفاً في وصفه للاشياء. قد يرى كل حماقات صاحب "الدار" الثانية حِكَمَاً وتعقلاً لا يرى مثلها في اصحاب "داره" الإولى. قد يظن إنه يفكّر خارج الصندوق لكنه يرمي بنفسه في صندوق آخر. موقف يقول عنه صنّاع الفكر بأنه تفكير خارج الصندوق من خلال صناعة صندوق آخر، He thinks out of the box by creating another box.
بين "الطائفي" و"المتحوّل" ضاع الموقف العابر للطائفية Trans-Sectarian Action. ذلك الموقف الذي يخترق الطوائف عرضاً ويصلبها على صليب النقد وفقاً لرؤية محايدة، غير منحازة ولا متحوّلة. موقف لا يتردّد في ذكر اخطاء اصحاب "الدار" الثانية ولا يستحي من مدح الاشياء الصحيحة الصادرة من ابناء "داره" الاصلية. يذكر مظلوميات ناسه إن وجدت، ويجرّم تمادي "الآخر" إن حصل.
وحده مَن يجلس على الجدار يستطيع رؤية تفاصيل بيته وبيت جاره بنفس درجة الوضوح والحياد.
وحده فقط مَن تكون آراؤه عابرة للطائفية وغير مجاملة لهذا او ذاك.
فهل بقيت عندنا اليوم في العراق مواقف عابرة للطائفية؟ ام صرنا جميعاً إمّا طائفيين او متحوّلين؟
مقالات اخرى للكاتب