«الحبيب وديع، تغني نجاة بعد أيام قصيدتي الجديدة (ماذا أقول له)، فأرجو أن تلملم لي ما يُنشر حول هذا الموضوع سواء كان خيرًا أم شرًا. كما أرجو أن تخبرني بشكل عام عن انطباعات الجمهور الأولى عن الأغنية». هذا ما كتبه الشاعر السوري نزار قباني في رسالة قديمة إلى صديقه الأديب المصري وديع فلسطين. والرسالة مؤرخة في الثلاثين من نيسان أبريل (نيسان) 1963، بعث بها الشاعر من مدريد إلى القاهرة حين كان يشغل وظيفة دبلوماسية في سفارة بلده لدى إسبانيا.
«ماذا أقول له لو جاء يسألني إن كنت أكرهه أو كنت أهواه؟». كانت واحدة من عدة رسائل تلقاها وديع فلسطين في تلك الفترة من أواسط ستينات القرن الماضي، مكتوبة على ورق صغير القطع، مائل إلى الصفرة، بخط نزار الأنيق المنمنم الذي يحتاج مكبرة لقراءته. وقد تفضلت السيدة سلمى مرشاق، تلميذة المُرسل إليه، وسمحت بالاطلاع عليها وعلى مئات المراسلات بينه وبين كبار أدباء العربية، بعد أن أهدى إليها مكتبته بالكامل وبضمنها صناديق الرسائل والنوادر من المجلات الثقافية التي سمع جيلنا عنها ولم يرها.
«غدًا إذا جاء أُعطيه رسائله ونطعمُ النارَ أحلى ما كتبناه». أقام نزار في مدريد منقطعًا عما يُنشر في العواصم العربية من كتب وما يدور فيها من سجالات. وكان وديع هو الذي يقصقص مختارات من المقالات ويبعث بها إليه. وفي رسالة مؤرخة في العاشر من (مارس) 1964، يكتب نزار: «يبدو لي أنك أصبحت الجسر القمري الذي يربطني بعالم الفكر والشعر والفن. فلولاك لكنت مثل أهل الكهف، لا أعرف شيئًا عن هذا الذي يجري خارج باب المغارة. فليس في إسبانيا سوى الصحف الإسبانية والكتب الإسبانية، والقارئ الإسباني لا يعرف شيئًا عن تيارات الفكر العالمية إلا من خلال الترجمات الإسبانية لبعض الآثار الكلاسيكية التي ترجمها المنفلوطي لدينا في نهاية القرن التاسع عشر. تصوّر! لذلك كانت قصاصاتك بمثابة نافذة على العالم الأدبي والفني، وهي الخيط الوحيد الذي يربطني بعالم الأحياء».
«مالي أحدّق في المرآة أسألها بأي ثوب من الأثواب ألقاه؟». في تلك الفترة، وصل إلى مدريد الشاعر العراقي هلال ناجي ليشغل وظيفة القائم بأعمال سفارة العراق لدى إسبانيا. وكان تعيينه حدثًا كتب عنه نزار يقول: «لا شك أن وصوله سيضفي على أيامنا هنا مسحة من الشعر ويلوّن العمل السياسي بحيث يغدو أطيب نكهة وأعذب مذاقًا. ليت وزارات الخارجية تفكر دائمًا بإرسال شعرائها ليمثلوها دبلوماسيًا، إذن لغمر السلام الأرض وصار الحب لغة السياسة. إن الشاعر هو رسول الحب والإنسانية حيثما هبط وسفير الجمال حيثما انتقل».
«هنا جريدته في الركن مهملة.. هنا كتاب معًا كنا قرأناه». في ربيع 1962 ذهب نزار إلى قرطبة ليمثل سوريا في المهرجان الدولي للشعر العربي. وعند عودته على مدريد كتب لصديقه: «قرأت بعض قصائدي بالعربية مع ترجمة لها ولم أكن أتصور يا أخي وديع أن يتفاعل الجمهور الإسباني معي هذا التفاعل الرائع بحيث تصورت، وأنا على المنبر، أنني أُلقي قصائدي في القاهرة أو بيروت أو في دمشق».
«وكيف أهرب منه إنه قدري.. هل يملك النهر تغييرًا لمجراه؟». نقم الشاعر على الناشرين منذ تلك الفترة المبكرة. ويكتب في إحدى رسائله: «الكتاب كله أعجبني لكن ورقه وطباعته وغلافه أثارت غضبي على الناشر. ألم يكن في إمكانه أن يقدم هذا الكتاب الجيد في إطار أحلى؟ متى يتحرر أصحاب الكلمة من بخل الناشرين وماديتهم المقيتة؟».
تحرر نزار من الناشرين وأسس داره الخاصة التي تطبع دواوينه. وانتشرت قصائده على الورق وبأصوات مطربي زمانه، من أم كلثوم حتى كاظم الساهر. وكبرت نجاة الصغيرة لكن حنجرتها ظلت الأدفأ منذ أن همست، قبل نصف قرن: «الحب في الأرض بعض من تخيلنا.. لو لم نجده عليها لاخترعناه». همسة مدويّة ما زالت سارية حتى يومنا.
مقالات اخرى للكاتب