بعد أن فهمنا الحزن من خلال تصورات مختلفة لظاهرة واحدة ومن زوايا عدة لا بد لنا من العودة إلى رؤية الحزن من خلال تاريخ الحزن ذاته، فليس من المعقول أن ندرس الموضوع وكأنه قضية طارئة أو مستحدثة بدون عمق تأريخي لها، لقد أرتبط الحزن بالفقد بمعناه فشل الإنسان أن يحتفظ بما لديه من وجود مادي أو معنوي، حتى حزن آدم على ما أرتكبه من خطيئة وإن كانت مقدره له دليل على أن الحزن طريقا طبيعيا للتصحيح والتصويب، الرواية الدينية التي يؤمن بها كثيرون تقول أن حزن آدم على ضياعه وأضاعة فرصة البقاء نقيا مطلقا تمثلت بالأستغفار والأنابة التي تعني العودة للذات الأساسية الذات في نقطة الأنطلاق الأولى الذات الخالية من الخطيئة، هكذا مارس آدم عملية التصحيح وأنتقل من كائن مستقر متوازن إلى كائن قلق يبحث دوما عن التوازن المفقود ويسعى له.
التحزن والحزن التاريخي بقى سمة من سمات العقل البشري وجزء من الشخصية التي تنتقل من جيل لجيل لتمارس نفس القضية بطرق مختلفة وبمناهج متنوعة ولكنها جميعا تنتمي إلى قضية الإصلاح والمراجعة في الغالب، هنا نؤكد مثلا أن الشعوب التي لم تجرؤ على أن تتخطى حالة الحزن وحالة الفرح وحالة الهوس بهما لا يمكن أن تنتقل للعمل الإيجابي إلا بحدود ضيقة، هذه الحدود لا يمكنها أن تساهم في التغيير ولا يمكنها أن تعد مظهرا تطويريا، لذا تحرص القوى والمؤسسات السلبية في نظرتها للحزن أن تعمق حالة الشعور المفزع والمتطرف بالحزن لتبقي المجتمع تحت سطوة الخوف والقلق واللا توازن الذي يحفظ لهذه القوى قدرتها على التحكم والأستكمان في العقل الجمعي.
كثيرا من الشعوب والمجتمعات عانت من ويلات الظلم ومأسي وإشكاليات كادت أن تؤدي بوجودها الحقيقي، وعانت من الحزن والشعور به لكنها لم تستلم للحزن ولن تستغرق به تماما ولم تجعله طبيعة للشخصية الخاصة والعامة وأمكنها ذلك من الأنتقال والتطور دون أن يكون للحزن التاريخي قدرة على منعها من العيش مجددا وتجاوز حالة اللا أستقرار في وعيها الذاتي، علينا كمجتمع مصبوغ بطابع الحزن وغارق في مفرداته ومنغمس حد الذوبان به أن نلتفت لهذه القضية، وأن نجعل من الشعور بالظلم والقلق والخوف دوافع إيجابية لمواجهتها دون أن نعطيها الظهر ونستجيب لها بكل قوة، لأن ذلك يجردنا من طبيعتنا ويجرنا نحو المزيد من الظلم المركن والحزن المتراكم.
السؤال الذي نطرحه في نهاية بحثنا هذت متى ولماذا كيف نسخر الحزن لتصحيح مسارات حياتية في واقعنا اليومي يسمح لننا من خلالها أن نستعيد توازننا، ونحمي الشخصية الفردية من أثار الإفراط والأنغماس في الحزن للدرجة التي تجعل تصنيف سمات الشخصية عندنا بالشخصية الحزينة، الجواب من خلال دراسة الواقع وما لمسناه في أستنتاجاتنا نستطيع أن نقول فشلت الشخصية العراقية في تحويل ظاهرة الحزن الطبيعية إلى قوة أنطلاق، بل أكثر من ذلك تحولت الشخصية العراقية بفعل الإدمان بالشعور بالظلم والحزن إلى شخصية (السيكوباتيه) أو الشخصية المضادة للمجتمع وتعريفها (بأنهم أولئك الأشخاص الذين تكون حالات الخلل في سلوكهم ومشاعرهم ظاهره في تصرفاتهم دون أن ينجحوا في محاولة التوافق مع الواقع أو القدرة على التجاوز، وأيضا فشلهم في طريقتهم في التوافق مع محيطهم الاجتماعي).
هذا التوصيف نجده واقعا من خلال فشل الوعي الفردي والجمعي التخلص من ظاهرة الحس والتخلص أيضا من ظاهرة الشعور بالمظلومية، لذا يلجأ أصحاب هذه الشخصية إلى مسلكين لتفريغ الطاقة السيكوباتيه المختزنة في الوعي، أما بطريقة جلد الذات ومن ثم الأستغراق التام بالشعور بالذنب أو مواجهة الأخر بروح عدوانية، أو حتى أنفعالية شديدة الوضوح لتقول له أن الواقع الذي تعيشه هذه الشخصية هو الواقع الأمثل، وأن التغير أو التخلص منه جريمة وجودية بالنسبة له، وقد تبحث عن تبرير لهذا التصرف فترجعه دائما للقضية التاريخية وتقوم بالبحث عن حزن تاريخي لتجعله عنوان ومبرر ومثال لها.
إن البحث في ظاهرة الحزن العادي والطبيعي هو بحث في إنفعالات طارئة سرعان ما تتبدل وتتحول إلى سيرورة أعتيادية في حياة الفرد، أما التحزن والإدمان المفرط والغوص كليا في معايشة مستديمة لظاهرة الحزن الإنفعالي لا بد لنا أن نبحث في أدواتنا العلمية والنقدية كي نجد الأسباب والمبررات والعلل التي تجعل الفرد غير قادر وغير مهيأ لأن يكون قادرا على تجاوز المحنة ومن ثم الأنتقال إلى الأستواء الموزون للشخصية الإنسانية الطبيعية، وهنا لا يكفي مثلا أن نبحث عن تبريرات خارج النظرية العلمية وربطها بالشعور الجمعي أو أحتسابها على معطى ديني مقدس نحاول من خلاله إيهام العقل أن التحزن والغرق في عالم الأحزان والألم هو حالة طبيعية ننسبها أحيانا إلى شخصيات تاريخية لها قداسة أو كونها قدوة سلوكية لنا.
مقالات اخرى للكاتب