التصريحات التي أطلقها السيد نوري المالكي من البصرة في الاسبوع الماضي، أعادت الى الاذهان ما سمعناه عن الدول الديمقراطية أو حتى الشبيهة بها، وكيف ينسحب المسؤولون البارزون وبالذات رؤساء الحكومات بكل هدوء وصمت وواقعية، بعد إنتكاسة مخزية، أوفضيحة مدوية، أو عندما يعلمون أن الشعب لايريدهم، ويشعرون بوجود إجماع بشأن عدم مقبوليتهم .
قارنت بين هؤلاء وبين السيد المالكي الذي أزيح عن كرسي الحكم، بضغط المرجعية الدينية، وضغوطات أخرى دولية وإقليمية ومحلية سياسية وشعبية، فعبرت في أفق خيالي صورة الأوضاع المزرية للعراق والعراقيين في ظل حكومته وخلافاتها العبثية، وجنوحها الأهوج نحو تفتيت المجتمع العراقي، وإثارة الفتن وهدم كل ما بني من ثقة بين العراقيين بعد إسقاط صدام، وشاهدت أن إخراجه من الباب بالقوة وعوته (أو إعادته) من الشباك، يعني ضرب الوحدة والمصالح العليا، والاتجاه نحو التشتت والتشرذم وتغليب المصالح الخاصة والضيقة على مصلحة الوطن والمجتمع. ووجدت أن من يظن بالإمكان معالجة مجموع التراكمات والانحرافات التي شوهت صور التعايش والتسامح، والأخطاء المتعددة المشينة والممارسات غير العقلانية في العراق، مخطيء، لأن الازمات السابقة لم تكن بنات ساعاتها، ولم تبرز خلال أيام أو أسابيع، ويتحمل رئيس الحكومة السابق مسؤولية تبعاتها من القمة الى القاعدة.
لست هنا في وارد السرد الموضوعي للسلبيات والتراكمات، ولكن من أجل وضع اليد على الجرح الأول، أقول أن رغبته الجامحة في التفرد والاستئثار بالحكم والثروة ورفض الآخر سواء كان معارضاً أو رافضاً للرضوخ والركوع، وممارسة الإكراه والردع والزجر والمنع والإقصاء والاجتثاث والتفرد والهيمنة، وما لحق ذلك من عنف وإرهاب، والمزايدة على المخالفين السياسيين، ووصول الأمر إلى التدخل في أدق تفاصيل الحياة اليومية والتضييق على كل أشكال الحريات، وتحديد المسموح والممنوع، والحلال والحرام، والتمسك بقشور الديمقراطية والإيمان والالتزام بالعيش المشترك وترك الجوهر، نجد أن ماعشناه من انهيارات في كل مفاصل الحياة، وهدر أو سرقة مئات البلايين من الدنانير، وتهريب الثروات الى خارج البلاد، وإستنزاف الطاقات، قصمت ظهر المواطن، وحتى عندما وصلت معلومات تنبئ بحدوث ما فعله داعش، وتحذير المالكي، فإنه تجاهل الأمورولم يحرّك ساكناً وأوحى إلى قواته بالانسحاب وعدم المقاومة، وحصل ما حصل، والأسوأ من ذلك ومع إزدياد الدعوات التي تطالب بمحاکمته ومحاسبته بإعتباره المسؤول الرئيسي و المباشر عن تدهور الاوضاع ووصولها الى الهاوية، وبدلاً من الانزواء والتهرب من الاضواء، نلاحظ أن المالكي ومن دون أن يأبه أو يکترث لأي شئ، يتجاوز بتصرفاته وممارساته وتصريحاته حدود صلاحياته الدستورية وموقعه الشرفي (الذي لاحصانة له)، يسعى للظهور کأحد مراکز القوى الرئيسية والأساسية، ويدفع، بسوء النية، في السر والعلن بإتجاه خلق العراقيل والعقبات أمام حکومة العبادي من خلال تجاوزالمشتركات والقيم الوطنية والعمل على تضخيم الأزمات بالإعتماد على الأوهام وتزوير الحقائق وإستغلال حالة الإستنفار السائدة ضد الارهاب والتطرف والعنف والفساد في البلد لمآرب ذاتية وطائفية وعنصرية، وتحريك المشاعر نحو التشاؤم وقراءة الأمور بشكل غيرموضوعي، لإشاعة الفوضى العارمة وتغيير التقدم الى الامام بالتراجع للخلف، ورغبة في دفن الإرادات التي تعمل بجد لمحاسبة المتسببين لمآسي وازمات عهده الغابر وما قاله في البصرة دليل على ما نقول...
الحقيقة التي يتفق بشأنها الجميع والتي تدعو إلى الشك والريبة هي أن المالكي ماض في طريق يؤدي الى منزلق خطير لايستطيع أحد التكهن بنهايته، ويريد أن يسحب معه أكبر عدد من العراقيين، لذلك لا بد من ضبط تحركاته ولجم تصريحاته وتحجيم زياراته بما يتلاءم ومتطلبات المرحلة، وبخلاف ذلك، تتكرر الأخطاء الفادحة وتفقد الحكومة هيبتها وسلطتها
مقالات اخرى للكاتب